اعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد وال محمد
أمريكا قبل نهاية التأريخ واقفة على مفترق الطرق
فرانسيس فوكوياما وتوهمه في نهاية التأريخ بتسلط أمريكا للأبد ، يعود فينقض سخافته تلك بكتابه الجديد " أميركا عند مفترق طرق " والذي سنتابع التعليق عليه من خلال عرض ومناقشة (محمد الخولي) والتي تنشرها جريدة البيان الإماراتية .
عاد الياباني الأصل فوكوياما ليوقف امريكا على مفترق الطرق مثبتا كذب تنبوءاته بنهاية التأريخ عند مبادئ امريكا العلية ! ، لكنه عاد ونقض غزله بعد ما غره الحلم الكاذب وأقر أخيرا بمفترق المسير والذي سيتلوه السقوط بالهاوية التي أعدها الله تعالى بكتابه ، ووعد بتحقيقها عندما يُغتَرُ بها بفكر فوكوياما وغيره .
كما سبق وتوجه له النقد من آخرين منهم ادوارد أراب قال : ( المثير للدهشة هو مساعي فوكوياما في اهمال العالم الثالث) اهـ .
هكذا قال ، مع أن نهاية أمريكا ستكون على ساحات من يسمونه بالعالم الثالث ، وسيشهد ذلك العالم كله على ما وعد الباري سبحانه والمسيح .وممن رد عليه " آلن بلوم " و " هيرترود هيميلغارت " و " بيير اسنر " الفرنسي والذي اتهمه بأنه لا يؤمن بالتأريخ ولا بنهايته . و " ايلقيز بوزدينا كوف " مع آخرين . واليوم يعترف فوكوياما نفسه بفشل تلك النظرية ، ولنتابع سويا ابرز ما ورد بكتابه الجديد .
أميركا عند مفترق طرق ـ الحلقة «1»
وقد نشرت دوريات عديدة ومرموقة أكثر من عرض ونقد وتقييم لطروحات الكتاب بفصوله السبعة وصفحاته التي بلغت 226، خاصة وأنه يتعرض لأفكار فصيل المحافظين الجدد الذين ما برح نفوذهم ظاهرا وملموسا وعميقا، بصور شتى في عملية صنع وهندسة القرار الاستراتيجي بالولايات المتحدة..
حيث يدرك متابعو الشأن السياسي مدى قوة انتشارهم ما بين مقر الرئاسة إلى البنتاغون إلى البنك الدولي إلى سفارة الولايات المتحدة في بغداد.أما المؤلف فرانسيس فوكوياما، المثقف الأميركي من أصل ياباني، فيتميز بأنه جمع بين الاهتمام الأكاديمي كأستاذ جامعي وبين الممارسة العملية .
حيث عمل مستشارا بالخارجية الأميركية وأصدر دراسات في العلاقات الدولية جاءت في مقدمتها مرثيته الشهيرة لنظام القطبين العالمي التي أصدرها تحت عنوان «نهاية التاريخ» .
ترجع أهمية هذا الكتاب الماثل بين أيدينا إلى عوامل رئيسية ثلاثة:
أولا، إن المؤلف الأميركي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما لا يزال يعد في طليعة المفكرين السياسيين في الولايات المتحدة.. لا على المستوى الفكري الذي يجتهد في بلورته حيث يعمل أستاذا للاقتصاد السياسي الدولي في كلية الدراسات المتقدمة (العليا) بإحدى الجامعات المرموقة في أميركا .
وهي جامعة جون هوبكنز - ولكن أيضا لأنهم يسلكونه موضوعيا ضمن الكادر الرفيع المستوى من علماء السياسة والاقتصاد وهي الفئة التي تحمل اسم «واضعي الأجندات» بمعنى واضعي وأصحاب التنظيرات السياسية التي لا تلبث أن تتحول إلى خطط.
وبرامج يعتمدها رؤساء الدول ويقوم على تنفيذها مسؤولو التنفيذ، الذي قد يكون هادئا أو «باردا» في البيت الأبيض أو في وزارة الخارجية.. وقد يصل إلى درجة عالية من السخونة عندما يشارك في التنفيذ جحافل البنتاجون في مسارح العمليات.
* ثانيا، إن البروفيسور فوكوياما ذاعت شهرته في مستهل التسعينات عندما أصدر كتابه المهم الذي ظل يتصدر قائمة أكثر الكتب رواجا ومبيعا في العالم الناطق بالإنجليزية .
وهو كتاب «نهاية التاريخ» الذي يصفه المحللون بأنه جاء بمثابة مرثية لا تخلو طبعا من التشفي في انهيار المنظومة الشيوعية وزوال الاتحاد السوفييتي بقدر ما جاء بمثابة إعلان بالتهليل والوعود لا يخلو طبعا من خيلاء وإشادة بما رآه المؤلف من انتصار المعسكر الرأسمالي في الغرب عبر ضفتي الأطلسي وبالتالي تكريس أميركا قطبا واحدا ومحورا مهيمنا وزعيما لا يشق له غبار مع غروب قرن حافل وعلى أبواب قرن واعد.
* ثالثا، إن الأستاذ فوكوياما مهد لنفسه، وبكتابه الذي ألمحنا إليه، مكانة التنظير مع التبشير بالفريق الذي كان مع التسعينات يترقب، بل يتلمظ، من أجل استلام مقاليد السلطة الرئاسية في أميركا وقد أمسك بها فعلا حين تهيأت أسباب النجاح للرئيس بوش - الابن الذي دخل البيت الأبيض على صهوة مطامح هذا الفريق الذي حمل ولا يزال يحمل اسمه أو شعاره المعروف في حوليات الفكر والسياسة الأميركية المعاصرة وهو:
المحافظون الجدد
نعم.. كان فوكوياما هو العقل المفكر وهو الأستاذ المنّظر لهذا الفريق.. وهو يحكي في تصدير كتابنا هذا عن مراحل تلمذته على يد رواد هذا الفريق من المحافظين السياسيين وقد تعلم من بعضهم وعمل مع بعضهم الآخر. وفي هذا التصدير نقرأ أسماء من قبيل بول وولفويتز وكان من صقور وزارة الدفاع وهو الآن رئيس البنك الدولي.
ونقرأ أسماء آلان بلوم الذي كان أستاذا للمؤلف فيما كان تلميذا لدى ليوشتراوس.. رأس مدرسة المحافظين الجدد الذي هاجر من ألمانيا وبشّر بفكر هذه المدرسة وأصدر كتابه الشهير بعنوان «إغلاق العقل الأميركي» ورحل عن الدنيا في أوائل عقد السبعينات.
في نفس التصدير نجد مفاجأة التخلي عن المحافظين فيؤكد لنا مؤلف كتابنا ما نعرفه من خلال متابعتنا الشخصية على مدار سنوات لتطورات المشهد الفكري في الولايات المتحدة..
حيث كانت مقالات ودراسات وتنظيرات فرانسيس فوكوياما تنشر باستمرار في المجلات الناطقة باسم فريق المحافظين الذين يطمحون إلى تغيير العالم ولو عن طريق «الفوضى.. المنظمة» كما يدعون ولو باستخدام القوة الباطشة للآلة الحربية الأميركية وتحمل هذه المجلات ولا تزال أسماء وعناوين من قبيل «ناشيونال انترست» إضافة إلى «كومنتري».
بكل هذه المكانة.. واستنادا إلى هذا التاريخ.. ومن ثم إلى مصداقية لا يشق لها غبار.. فاجأ الأستاذ فوكوياما أميركا والعالم بكتابه الجديد الصادر مؤخرا ليرصد فيه أوضاع أميركا وهي عند مفترق طرق .
- ويفصّل على صفحاته ما آلت إليه أفكار المؤلف بصدد قضايا محورية وخطيرة من قبيل الديمقراطية والسلطة وتراث (تركة) المحافظين الجدد أو هي وصيتهم التي يبلورها سؤال مطروح يقول: ماذا يبقى منهم للتاريخ؟
في ضوء كل ما سبق يكتسب هذا الكتاب أهميته حتى لا نقول خطورته.
الغارديان: الكتاب
هجمة وحشية
لا عجب أن تنشر الغارديان البريطانية (عدد 13/4/2006) عرضا نقديا لكتابنا تحت عنوان «التفكير الانتقادي» وتستخدم في الموضوع عبارات حادة تقول باختصار شديد:
- إن سياسة بوش الخارجية أصبحت في مرمى نيران القصف من جانب مبشر سابق من مبشري المحافظين الجدد.
في نفس الموضوع يقول الكاتب الإنجليزي مارتن جاك في وصف الكتاب الذي بين أيدينا:
- إن هذا الكتاب يشكل هجمة انتقادية جارحة (حرفيا متوحشة) لسياسة ونزعة المحافظين الجدد على نحو ما نادت بها وعملت على تنفيذها إدارة بوش. وهذا الانتقاد يكتسب خطورته من واقع أن فوكوياما كان يعد نفسه، وبقوة، في طليعة المؤمنين بهذه السياسة والمبشرين بها.
النيويوركر: الكتاب
لحن وداعي
من جانب آخر يكتب «لويس مينان» في مجلة النيويوركر (عدد 27/3/2005) واصفا كتاب فوكوياما بأنه أقرب إلى لحن الوداع أو معزوفة الطلاق أو الانفصال بمعنى الانشقاق عن صفوف المحافظين المتحكمين في مقاليد أميركا في المرحلة الراهنة..
وفي مقال النيويوركر يلفت الكاتب النظر إلى أن هذا الانفصال أو الانشقاق لم يأت جديدا ولا كان مفاجأة مباغتة - ويحاول المقال تذكير القارئين المحللين بأن فوكوياما سبق منذ عام 2002 أن حذر من المبالغة الشديدة في تقدير خطر ما يوصف بأنه تنظيم القاعدة أو جماعات «الجهاديين».
النيويورك تايمز:
«نيو نو مور»!
أما ملحق الكتاب الصادر عن النيويورك تايمز (26/3/2005) فقد حمل على غلافه إشارة إلى صدور كتابنا يلحق بها بالطبع موضوع تفصيلي عن الكتاب - وقد عمد كاتب الموضوع إلى صياغة بارعة لتلك الإشارة لخص فيها مقصد الكتاب فقال بالإنجليزية:
- «نيو نو مور»
وقد نفهم معناها على أنه «لم يعد ثمة مكان «للنيو كونز» أو المحافظين الجدد.
ولأن لكل كتاب قصة.. أو حكاية أساسية أو جنينية كما قد نسميها فإن مؤلفنا يوافينا في سطوره الأولى بقصة نشأة هذا الكتاب وقد نلخصها على النحو التالي:
* في ليلة باردة من ليالي فبراير عام 2004 كان المؤلف (البروفيسور فرانسيس فوكوياما) يحضر حفل عشاء في واشنطن العاصمة أقامه أحد المراكز الفكرية (ثنك تانك) الناطقة باسم المحافظين الجدد.. حكام واشنطن وكبار مسؤوليها.
وعندما وقف كبير المتحدثين في الحفل وهو المحلل السياسي تشارلز كروثامر يتكلم.. كادت الدنيا تدور بالأستاذ فوكوياما الذي وقعت كلمات المتحدث على رأسه وقع الصاعقة:
كيف لا وكان الحديث يدور حول النجاح الذي لا يباريه نجاح عند الأولين والآخرين وقد حققته أميركا في العراق. زاد وقع الصاعقة أيضا عندما فوجئ فوكوياما بالحضور وقد انطلقوا في عاصفة من التصفيق معربين عن سعادة غامرة وغرور بغير نظير. أما عن شعوره وأفكاره في تلك اللحظة.. فيقول مؤلف كتابنا:
- في تلك اللحظة لم أستطع أن أفهم سر هذا التصفيق المتأجج حماسا من حولي، خاصة وأن أميركا لم تعثر على أي أسلحة دمار شامل في العراق ومن ثم فقد وجدت نفسها منغمسة في ورطة حافلة بالمتمردين بل وكادت تعزل نفسها تماما عن بقية العالم بسبب ما عمدت إلى اتباعه من ذلك النوع من سياسة القطب الواحد التي دعا إليها كروثامر في الكلمة التي ألقاها على مسامع الحاضرين.
وهكذا في اليوم التالي عزمت على أن أكتب منتقدا هذه النزعة وكان أن ظهرت التحولات أولا في مقالة منشورة في صيف 2004 تحت العنوان التالي:
«لحظة المحافظين الجدد»
في تلك المقالة - يضيف مؤلفنا - انتهيت إلى أن حركة المحافظين الجدد، سواء كرمز سياسي أو كتيار فكري، قد تحولت إلى شيء لم يعد بوسعي أن أؤيده، وهذا ما سوف أدلك عليه في سطور هذا الكتاب الذي أحاول فيه أن ألقي أضواء تشرح للقارئ الأسباب التي أفضت إلى تلك الأخطاء التي ارتكبتها إدارة الرئيس بوش الحالية.ومن ثم أحاول أن أرسم المعالم الأساسية لمسار بديل أرى أن من واجب أميركا - أو من الأفضل لها - أن تسلكه لكي تعيد تواصلها مع بقية العالم. تلك هي الخلفية الأشمل التي كان يصدر عنها مؤلفنا وهو بصدد بلورة أفكاره في هذا الكتاب. ثمة أسباب مباشرة وتفصيلية دفعته إلى طرح هذه الأفكار في هذه المرحلة بالذات:
من هذه الأسباب مساندته لإصدار مجلة جديدة في الفكر السياسي تعنى بالمصالح الأميركية وتحمل عنوانا بهذا المعنى وهي «أميركان انترست» ويقصد بها - كما يضيف مؤلفنا - أن تعالج دور أميركا في العالم في محاولة لتجميع آراء الأنصار والمؤيدين لهذا الطرح الذي يناقض فيه أفكار وتحركات ونظريات وسياسات المحافظين الجدد التي أوصلت العالم موضوعيا إلى أحوال لا تسر القريب ولا البعيد.
الويلسونية.. الواقعية
هذه السياسة الجديدة التي يقترحها مؤلفنا فوكوياما يمكن أن نطلق عليها - كما يقول الكتاب - الوصف التالي:الويلسونية الواقعية
والرجل - في تواضع الأكاديمي - يناشد قارئيه أن يوافوه بآرائهم ومقترحاتهم إذا ما تصور أحدهم أو أحداهن عنوانا أفضل أو أدق لهذه الدعوة الجديدة في السياسة الأميركية الراهنة. وربما يقصد بالويلسونية الواقعية نوعا من المزج أو الموالفة أو التركيب بين أفكار رئيس أميركي سابق هو وودرو ويلسون (1856-1924) وبين واقعية الزمان الصعب الذي نعيش فيه.
ورغم أن المؤلف يعدنا بالمزيد من بسط وتفصيل الأفكار التي طرحها في سطور الكتاب، إلا أننا نفهم في هذه المرحلة المبكرة من مطالعتنا لهذا العمل الفكري أن المقصود هو استثمار أفكار ويلسون التي سبق إلى طرحها بعد ويلات الحرب العالمية الأولى لبناء السلام العالمي وإنشاء كيان دولي يفصل في المنازعات بين الأمم والشعوب (هو عصبة الأمم المتحدة التي تحولت كما هو معروف إلى منظمة الأمم المتحدة) .
والحق أن ثمة فضلا ينسب إلى ذلك الرئيس الأميركي (تولى رئاسة بلاده بين عامي 1913 و1921) وكان قبلها أستاذا جامعيا مرموقا - كما أنه كان أول مسؤول غربي كبير يدعو إلى إقرار حق الشعوب في تقرير المصير وقد رفع لواء هذه الدعوة لدى انعقاد مؤتمر الصلح الشهير في باريس عام 1918 ونال بفضلها جائزة نوبل الرفيعة للسلام عام 1919.
كانت من ثم أفكارا نبيلة وطموحة بقدر ما كانت تحلق في أجواء الحلم بعالم أفضل يعيش في ظلال السلم والأمن ومن ثم الاستقرار والرخاء.
ورغم أن الحلم الويلسوني لم يتحقق للأسف إذ عاد العالم إلى خوض أتون الحرب العالمية الثانية بعد حكاية جائزة نوبل بعشرين عاما لا تزيد، إلا أن الويلسونية ظلت مستقرة في الضمير الجمعي الأميركي.
وفي متون الأدبيات السياسية في أكثر من موقع بالعالم إلى أن جاء الأستاذ فوكوياما كما أسلفنا ليمزج بينها وبين النزعة الواقعية التي تقتضيها ظروف العالم الراهن بكل أوضاعه المؤسسية.
نظرة خاطئة للعالم الإسلامي
في هذا الإطار لا يفوتنا ونحن نبدأ ملاحتنا في بحور هذا الكتاب أن نرصد ملمحا ذكيا من جانب المؤلف لواحد من أفدح الأخطاء - في رأينا - التي وقع فيها المحافظون الجدد من ساسة أميركا ومفكريها ومسؤوليها.يقول فرانسيس فوكوياما :
- علينا أن نتوقف عند الأسلوب الذي تبناه وأصر على اتباعه بعض المحافظين الجدد (في أميركا) إذ لم يتورعوا عن تبني وتطبيق المبدأ الاستراتيجي الإسرائيلي المتشدد (المتصلب)، وبصورة غير سليمة أو لائقة في رأيي على الحالة في أميركا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
يصدق هذا مثلا على الكاتب السياسي كروثامر بالذات.. وقد أقنعتني حواراتنا التي دارت بعد ذلك بأنني كنت على حق فيما ذهبت إليه. وأنا أرى أن آراءه التي تدور حول خطر داهم ماحق يشكله العالم الإسلامي إنما هي آراء خاطئة مغلوطة..
ورغم أنني (المؤلف) سوف أسهب في عرض أسبابي في الفصل الثالث من كتابي، إلا أنني أكتفي في السياق الراهن بأن أقول أن مثل هذه الآراء قد تكون لبعض الأفراد و يجوز أن تنسب إلى المحافظين الجدد في عمومهم - ومع ذلك فما زلت أتصور أن إدارة بوش أخطأت التعامل مع قضايا هامة من قبيل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
ففي خلال ولايته الأولى لم تضغط إدارة بوش كما ينبغي من أجل التعامل المكثف مع هذه القضية ومن ثم فالاختبار الحقيقي لإدارة بوش ولسائر قضايا المحافظين الجدد هو الفترة الحالية وبعد الانسحاب (الذي تم) من غزة.
هكذا حرص البروفيسور فرانسيس فوكوياما على التمهيد لأطروحة كتابه وكأنما يحاول فتح شهية القراء والمحللين، خاصة وقد عمد أيضا إلى ما يشبه تجريب الأفكار المطروحة على طلابه الدارسين في الموسم الأكاديمي بجامعة ييل في أبريل من عام 2005 وضمن برنامج الجامعة الذي حمل عنوان «الأخلاقيات والسياسة والاقتصاد». بعدها يبدأ الفصل الأول من الكتاب تحت العنوان التالي:
المبادئ والحصافة..
المؤلف يفتتح هذا الفصل بالوقوف عند حادثة الهجوم الغاشم الذي تعرضت له أميركا يوم 11 سبتمبر 2001. ولكنه يقف أيضا عند الإجراءات التي اتخذتها إدارة بوش (الأولى) وتجسدت في سياسات يصفها المؤلف بأنها كانت درامية وكاسحة بدأت بدفع الكونغرس إلى إقرار القانون الوطني الذي منح سلطات واسعة لدوائر إنفاذ القوانين.
وتلت الإدارة ذلك بغزو أفغانستان ثم أعلنت مبدأ استراتيجياً جديدا تحت شعار الإجراءات الوقائية - الإجهاضية وهو ما يرادف - في رأي المؤلف أيضا - مذهب الحرب الاستباقية بمعنى أن تفرض القتال على العدو في أراضيه بدلا من الاعتماد على سياسات الردع أو الاحتواء التي كانت السياسة المحورية المتبعة خلال الحرب الباردة..
وأخيرا يضيف فوكوياما - قامت أميركا بغزو العراق والإطاحة بنظام صدام حسين على أساس أنه كان لديه - أو كان يعتزم اقتناء - أسلحة للدمار الشامل. ثم يوضح المؤلف أن السياسات الداخلية كانت استجابات أو ردود أفعال مباشرة لهجوم 11 سبتمبر وكان بالإمكان تبريرها على أسس شتى..
وذلك خلاف حكاية غزو العراق حيث كانت إدارة بوش تتوقع حربا قصيرة الأمد وتحولا سريعا ومريحا نسبيا إلى عراق ما بعد صدام دون أن تلقي بالا إلى احتياجات التعمير بعد انتهاء الصراع ولشد ما كانت دهشتها حين وجدت نفسها وقد تعين عليها أن تحارب ضد حركة تمرد (أو مقاومة) تمتد إلى أمد طويل.
أفكارهم خارج السلطة
ماذا إذن عن مفكري المحافظين الجدد، وأين موقعهم من هذا كله؟يجيب مؤلف الكتاب :
- في السنوات التي كانوا فيها خارج السلطة، أي قبل انتخابات عام 2000، كانوا قد اقترحوا أجندة مستجدة للسياسة الخارجية تنطلق من مفاهيم وأفكار من قبيل: تغيير النظم الحاكمة.. الهيمنة الخيّرة (السيطرة الرؤوم) عالم القطب الأوحد..
الضربات الاستباقية والوضع الاستثنائي لأميركا.. وكل هذه الأفكار ما لبثت أن تحولت لكي تصبح ركائز أجندة السياسة الخارجية الأميركية بعد مجيء (مرشحهم) بوش رئيسا للولايات المتحدة.
في نفس السياق يضيف فرانسيس فوكوياما قائلا بوضوح:
- إن كثيرا من هؤلاء المحافظين الجدد كانوا من أقوى دعاة شن الحرب ومن المدافعين عن تحويل بؤرة التركيز من «القاعدة» إلى العراق... وهكذا جاءت تصريحات وإعلانات وأقوال الرئيس في مناسبات شتى لعل أهمها خطاب حالة الاتحاد وخطاب معهد انتربرايز الأميركي في فبراير 2003 إضافة إلى استراتيجية أمن الولايات المتحدة المنشورة في سبتمبر 2002 .
- كل هذا أصبح يشكل في مجموعه ما أصبح يوصف بأنه «مبدأ بوش» وكلها تتسق مع ما كانت تطرحه وتدعو إليه عناصر المحافظين الجدد ممن ليسوا أطرافا أو مسؤولين داخل سلك تلك الإدارة.أخيرا يقول المؤلف:
- في ضوء هذا السجل، لا عجب أن رأى كثير من المراقبين السياسيين أن إدارة بوش هي بالقطع نتاج عمدت إلى تشكيله وصياغته جماعات المحافظين الجدد في الولايات المتحدة. " البيان 3/6/2006"
أميركا عند مفترق طرق الحلقة «2»
المفكرون اليهود يرسمون الخطوط الأساسية لفكر المحافظين الجدديتناول فرانسيس فوكوياما في هذه الحلقة من الكتاب جذور فكر المحافظين الجدد التي تضرب عميقاً في التربة الزمنية للقرن العشرين، وبالأخص في أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينات من القرن الماضي، عندما شرعت مجموعة من الأكاديميين اليهود في جامعة نيويورك وعلى رأسهم ليو شتراوس بالعمل ضد انتشار الشيوعية بعد نجاح الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 وانتشار الأفكار الماركسية.
يشير مؤلف الكتاب إلى الدور الذي لعبه المحافظون الجدد في تسيير دفة السياسة الخارجية الأميركية باتجاه العمل المنفرد على الساحة الدولية تحقيقاً لما أسموه «الهيمنة الخيّرة» التي تتطلب عملاً عسكرياً استباقياً، مثلما حدث في العراق، مع أن المراقبين يعتبرون تلك الحرب وسيلة لتحقيق أهداف المحافظين الجدد في ضمان الأمن لإسرائيل ولو على حساب المصالح الأميركية.
قد يدهش الكثيرون من متابعي السياسة الأميركية حين يقال لهم إن حركة وفكر وتوجهات المحافظين الجدد ليست بالأمر المستحدث ولا هي بالاتجاه المستجد على المشهد السياسي الأميركي ولا حتى الدولي.
إن جذور حركة المحافظين تمتد في التربة الزمنية للقرن العشرين إلى أواخر الثلاثينات وأوائل عقد الأربعينات ومنذ ذلك الحين ظلت تولّد أفكارا وتبلور نظريات ومواقف إلى أن استقام لها مسار متميز ومجموعة متساوقة ومنتظمة من الطروحات النظرية ما لبثت أن أثرّت بدورها على نطاق واسع من خيارات السياسة الداخلية والخارجية على السواء في الولايات المتحدة.
هذا بالضبط ما يؤكده مؤلف كتابنا ـ البروفيسور فرانسيس فوكوياما في سياق الفصل الأول من هذا الكتاب. وفي نفس السياق يطرح المؤلف ما يصفه بأنه 4 مبادئ أو 4 خيوط تشابكت وتفاعلت معا إلى حيث حملت فكر المحافظين الجدد، عبر السنوات إلى حيث أوصلته إلى حقبة نهاية الحرب الباردة مع مقتبل عقد التسعينات.
هذه المبادئ أو الخيوط الأربعة يبسطها المؤلف على النحو التالي:
ـ انشغال بقضية الديمقراطية ومسائل حقوق الإنسان وبصورة أعم اهتمام (غير مسبوق) بالأوضاع الداخلية للدول فضلا عن اعتقاد بإمكانية استخدام قوة أميركا لتحقيق أهداف أخلاقية ـ أدبية أو معنوية في ظل التشكك في إمكانية أن تستطيع مبادئ وقواعد القانون الدولي ـ فضلاً عن المؤسسات الدولية (منظومة الأمم المتحدة بالذات) حل قضايا الأمن الخطيرة.
وأخيراً تصوّر بأن الطموح إلى التخطيط لتغيير أحوال المجتمعات (يسمونها الهندسة الاجتماعية) كثيرا ما يفضي (في رأي المحافظين الجدد) إلى عواقب غير متوقعة وغالبا ما يؤدي إلى تشويه أو تدمير المقاصد التي يطمح إلى بلوغها. عند هذا المنعطف المنطقي نقف مع مؤلفنا معربين إلى حد كبير عن موافقة أو اتفاق مع جانب كبير من هذه الأفكار..
فمن ذا الذي يرفض حقوق الإنسان؟ ومن الذي يبغض الممارسة الديمقراطية المستمدة من واقع الحريات العامة والأساسية؟ وقد عمدنا إلى استخدام عبارة الموافقة على جانب كبير من أفكار المحافظين لا باعتبار أن لا سبيل إلى الاتفاق معهم على جوانب أخرى مما يطرحون وخاصة حكاية التعاطي مع الشؤون الداخلية للدول والشعوب.
وهو اتجاه قد يبدو بريئا بمعنى إبداء الاهتمام بالمشاكل الداخلية للدول وربما تقديم المساعدات لها لحل مشاكلها المحلية، ولكنه قد ينتهي بحكاية مبدأ التدخل.. الإنساني كما حدث في عهد كلينتون وذلك باب مخيف يفتح ولا يكاد يغلق لأنه سيفضي إلى التدخل العسكري على نحو ما يشهده أكثر من بلد على خريطة عالم اليوم.
ويلفت النظر أيضا أن فوكوياما يكاد يتفق معنا من حيث الموافقة على جوانب من أفكار المحافظين الأميركيين ـ وفي هذا يقول:
ـ عندما تعرض هذه الأفكار في شكلها المجرد (يقصد النظري) فإن معظم الأميركيين لن يختلفوا معها كثيرا من الناحية المبدئية: بعدها يسوق المؤلف مثالا من أحد دهاقنة السياسة الخارجية الأميركية فيقول:
ـ هنري كيسنجر وأتباعه من أصحاب الواقعية السياسية لن ينكروا أهمية الديمقراطية، بل أن أنصار الأمم المتحدة نفسها لن ينكروا من ناحيتهم أن المنظمة الدولية تشوبها عوامل شتى من الفتور والقصور.. لكن القضية ليست على هذا النحو من البساطة:
إن هذه الأفكار النظرية وجدت من يفسرها بطريقة خاصة (وخطيرة أيضاً) فكان أن تحولت من نظريات إلى سياسات ومن طروحات إلى تهديدات ومن مبادئ توجه المسيرة إلى تحيزات عمياء أفضت بإدارة الرئيس بوش إلى ارتكاب أخطاء فادحة يبلورها المؤلف في ثلاثة على النحو التالي:
كان هناك خطأ تقدير الخطر المحدق أو تقييم التهديد المحتمل. وفي هذا الصدد ـ يضيف المؤلف ـ بالغت إدارة بوش أو بالأدق أساءت التوصيف لما قالت إنه الخطر الذي يواجه الولايات المتحدة من جانب الإسلام «الراديكالي».
وبرغم أن الاحتمال المستجد الذي يتصور أن إرهابيين سيظهرون على الساحة مدججين بأسلحة الدمار الشامل لم يتجسد من قريب أو بعيد، فإن الإدارة الأميركية عمدت إلى تضخيم هذا الاحتمال وربطت بينه وبين العراق بشكل خاص، ثم بينه وبين قضية الدول المارقة وانتشار الأسلحة النووية بشكل عام.
كان ذلك في رأي فوكوياما إساءة في الفهم وخطأ في الحكم على الأشياء وقد جاء ناجما بدوره عن فشل ذريع وبالجملة من جانب دوائر الاستخبارات التي جانبها الصواب والدقة في تقييم برامج أسلحة الدمار في العراق قبل نشوب الحرب. ومن جانبها أمعنت الإدارة إلى حد الغلو في تقييم الخطر إلى حيث وضعت مبدأ الحرب الوقائية ليشكل محورا لإستراتيجية أمنية جديدة.
حكاية الهيمنة الخيّرة
ومن الأخطاء الأخرى التي يعرض لها فوكوياما ما يصفه بأنه فشل إدارة بوش في تقدير واستباق رد الفعل العالمي إزاء ممارسة ما وصفه بأنه «الهيمنة الخيّرة». لقد جاءت إدارة بوش إلى البيت الأبيض من منطلق عقائدي متحيز ومتصلب ضد الأمم المتحدة وسائر المنظمات الدولية ومنها محكمة العدل الدولية.ولم ينتبه أركان هذه الإدارة إلى أنهم يدفعون الناس بذلك إلى مزيد من التباعد عن أميركا واتخاذ مواقف مناهضة لها.. خاصة وأنهم ما برحوا يمعنون في استهانتهم بخطوات أو دعوات التعاون الدولي..
ثم يخلص المؤلف إلى ما يراه آخر هذه الأخطار مجسدا في فشل إدارة بوش في التنبؤ بأحوال عراق ما بعد الحرب (أو عراق ما بعد النظام القديم) بل كان القوم مبالغين إلى حد الهوس في تقدير مدى السهولة التي سيتم بها إنجاز عمليات الهندسة الاجتماعية (بمعنى إعادة تشكيل المجتمع) لا على صعيد العراق وحده بل في منطقة الشرق الأوسط برمتها.
هكذا أثبتت الأحداث والتطورات خطأ، وربما خطورة، المنطلقات التي ظل المحافظون الجدد يصدرون عنها ويروجون لها.. وبلغ الفشل حداً دفع مؤلفنا فوكوياما إلى الدعوة إلى التخلي عن مذهب هؤلاء المحافظين بأكمله ومحاولة رسم وتحديد مسارات جديدة متميزة ـ كما وصفها للسياسة الخارجية للولايات المتحدة.
ويخلص المؤلف في خواتيم الفصل الأول إلى دعوة لاستعراض مشهد رواد وممارسي السياسة الخارجية في أميركا على اختلاف مذاهبهم ومدارسهم وتوجهاتهم وفي محاولة لاستكشاف أفق سياسي جديد.
ـ يقول إن هناك «المدرسة الواقعية» التي يقبع على رأسها هنري كيسنجر، وأصحابها يحترمون القوة والنفوذ وقد لا يكترثون كثيرا بحكاية الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ـ هناك «المدرسة الليبرالية» وأصحابها يؤمنون بالنزعة الدولية ويأملون في تجاوز سياسات القوة والتحرك قدما نحو نظام دولي قائم على سيادة القانون وتفعيل المؤسسات.
ـ هناك أيضا «المدرسة الجاكسونية» (والمصطلح للكاتب السياسي الأميركي والتر رسل ميد) وهي مدرسة الوطنية الأميركية الضيقة (منسوبة إلى الرئيس الأسبق أندرو جاكسون الذي تولى الرئاسة بين عامي 1829 و1837) .
وأتباع هذه المدرسة يطلون على العالم والعصر من نافذة المصالح الوطنية الضيقة من حيث ارتباطها بالأمن القومي الأميركي وهم يتشككون بالتالي في حكاية التعددية ويجنحون إلى تكريس عزلة أميركا بعيدا عن الانفتاح أو التعاطي مع قضايا ذلك العالم والعصر.
تحالف المحافظين والجاكسونيين
في ضوء هذا التصنيف يقول مؤلف الكتاب:ـ لقد تم الترويج لحرب العراق من خلال تحالف قام بين المحافظين الجدد وبين هؤلاء الجاكسونيين حيث تقبل الطرفان ـ ولأسباب متباينة ـ منطق تغيير النظام في بغداد، فكان أن نحّوا جانبا عناصر (أكثر رشداً وحذراً) من أتباع مدرسة الواقعية السياسية ممن سبقت لهم الخدمة في إدارة الرئيس بوش الأب.
وكان على رأس هذه العناصر العاقلة شخصيات من أمثال الجنرال سكوكروفت مستشار بوش الأب للأمن القومي وجيمس بيكر وزيره المرموق للشؤون الخارجية، وكلا الرجلين كانت تراوده شكوك، كما يضيف المؤلف، إزاء التبرير العقلاني لشن الحرب في العراق.
بعدها قُضي الأمر، ودارت عجلة المحافظين الجدد المحدقين بالرئيس بوش الابن.. فتحولت حملة «الحرية العراقية» كما سارعوا إلى وصفها من حملة تحرير ظافرة كما كانوا يتصورون إلى حيث أصبحت، كما يؤكد مؤلفنا، احتلالا غاشما (في مواجهة) حرب عصابات لدرجة أن وجد المحافظون الجدد أنفسهم في وضع الدفاع عن النفس .
وبالتالي بدأ «الواقعيون» يكسبون كل يوم أرضا جديدة. صحيح أن جماعة المحافظين أحرزت مكسبا مؤقتا بعد انتخابات العراق في 30 يناير 2005 لكنهم باءوا بخسران جديد بعد أن تواصلت هجمات ومقاومة المتمردين.. ورغم أن المؤلف يتصور بورصة توقعات منصوبة للمكسب والخسارة فهو يُرجع هذا التذبذب السياسي إلى حقيقة يقول فيها:
إنه ما من طرف في مدارس الفكر السياسي التي عرض لها: ما بين المحافظين.. إلى الواقعيين إلى الليبراليين إلى الانعزاليين ـ شمّر عن ساعديه لكي يطرح تعريفات واضحة أو يبلور أفكارا محددة تشق مسارا دقيقا أو ترسم نهجا جلي المعالم بحيث يمكن اتباعه إزاء التعامل مع قضايا العالم.
. ومع هذا كله فهذا النهج ما برحت الحاجة ماسّة إليه في أميركا ولاسيما بعد أحداث سبتمبر الكارثية في عام 2001 ومن ثم بعد ما قامت به أميركا من غزو العراق.
هذا التقاعس أو الإهمال أو التقصير، سمّه ما شئت، أوصل واشنطون وحكامها إلى وضع تجسده ظاهرة غريبة من التناقض الشديد:
ـ أميركا ـ القطب الوحيد في العالم الراهن تمسك بمقاليد الهيمنة في العالم.
ـ أميركا ـ نفس هذا القطب المهيمن الوحيد تعاني موجات من الكراهية على مستوى هذا العالم.
إعادة تعريف المفاهيم
هذا التناقض يشكل معضلة ـ وهي تدعو بدورها وبإلحاح شديد إلى إعادة تعريف المفاهيم وإلى مراجعة أمينة مع الأفكار.. وإلى تقييم أكثر موضوعية للمبادئ وقواعد اللعبة السياسية.ولما كان المؤلف قد استشعر ـ كما أسلفنا ـ تقصيرا وترددا أو ربما عجزا ـ من جانب مدارس الفكر السياسي في بلاده إزاء هذه المهمة الفكرية والعلمية بالدرجة الأولى.. ولما كان قد أدرك ـ إلى حد التسليم ـ أن الإمعان في الخط السياسي والعقائدي للمحافظين الجدد من شأنه أن يلحق أضرارا فادحة ومتواصلة بمصالح واشنطون. فقد آلى فرانسيس فوكوياما على نفسه أن يقوم بهذه المهمة.. وهذا هو بالضبط مقصده الأساسي من إصدار هذا الكتاب وهو يحدد هذا المقصد في عبارات تقول بالحرف (ص 11):
ـ الكتاب يقترح سبيلاً مختلفاً تنتهجه أميركا لكي تتواصل مع العالم: سبيلا مغايرا لنهج المحافظين الجدد وهو أيضا لا يتبع نهج الواقعيين ولا الانعزاليين (الجاكسونيين) ولا الليبراليين ذوي النزعة الدولية.
الكتاب ـ يضيف فوكوياما ـ يحاول أن يحدد سبيلاً أكثر واقعية يكفل لأميركا أن تعزز تطورها السياسي والاقتصادي بوسائل أخرى ليس من بينها الحرب الاستباقية.. وهو يفتح أمامها برنامج عمل (أجندة كما يسميها المؤلف) يقوم على أساس تعددية الأطراف ومن ثم يتلاءم مع واقع العالم الراهن الذي نعيش فيه والذي نطلق عليه عالم العولمة.
وشأن كل أكاديمي ضليع يبدأ المؤلف من استعراض بأسلوب التقييم والنقد لمجمل أفكار وخطوات المحافظين الجدد أو ما يسميه تراثهم أو ما صغناه نحن من جانبنا في سؤال عما يبقى منهم للتاريخ وهذا هو محور الفصل الثاني من الكتاب.
والحق أن لفيفا من مثقفي أميركا وساستها لم يقصروا في نقد المحافظين الجدد وفي تتبع مسارهم ـ ها هي الأستاذة «إليزابيث درو» تتهم المحافظين الجدد بأنهم مسؤولون إلى حد كبير عن ورطة أميركا في حرب العراق.. ويتردد صدى هذا عند أحد مرشحي الديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة وهو «هوارد دين» الذي نعى على إدارة بوش أنها واقعة تحت سيطرة أو بالأدق في قبضة المحافظين الجدد.
مصلحة إسرائيل
ثمة انتقادات واتهامات من نوع آخر يقول عنها المؤلف ما يلي (ص 12 وما بعدها):ـ كثير من المعلقين (السياسيين) أشاروا إلى حقيقة أن عددا كبيرا من غلاة الداعين إلى حرب العراق مثل بول وولفويتز ودوغلاس فيث وريتشارد بيرل كانوا من اليهود، وفي هذا الصدد دفع هؤلاء المعلقون بأن سياسة أميركا تجاه العراق كانت تقصد في التحليل الأخير إلى جعل الشرق الأوسط منطقة آمنة لحساب إسرائيل..
ويزداد الأمر غرابة وربما تطرفا حين يشير مؤلفنا إلى ما يسميه بالخط المنفصل في هذا الخطاب السياسي الأميركي وهذا الخط ألقى باللوم في حرب العراق على ما يوصف بأنه «الجناح الشتراوسي» من فصيل المحافظين الجدد.
ويعود هذا الاسم بداهة إلى المهاجر البروفيسور اليهودي الألماني الأصل ليو شتراوس الذي ألمحنا إليه وقد اشتغل أستاذا للعلوم السياسية في جامعات أميركا وما زال القوم يعدونه رأس مدرسة المحافظين الجدد لاسيما وقد كان كثير منهم تلاميذ لديه في دروس الجامعة.
والحاصل أن المؤلف بعد أن يستعرض هذه الانتقادات كلها ـ يعود فيؤكد لقارئه مرة أخرى.. أن فكرة أو تيار المحافظين الجدد ليس بالجديد على السياسة ولا الحياة العامة في أميركا ولا حتى في الغرب بل إن له جذورا ممتدة تعود زمنيا إلى أواخر الثلاثينات ومطالع الأربعينات من القرن العشرين.
ويعود مكانيا إلى جامعة مدينة نيويورك على وجه التحديد وتعود فكريا وأيديولوجيا إلى جماعة من المثقفين والأكاديميين اليهود الذين راعهم انتصار الثورة البلشفية عام 1917.
وبدء انتشار الأفكار الماركسية والدعوات الشيوعية في العالم فكان أن شرعوا في تكوين جماعة معادية للشيوعية من ناحية ومناهضة ربما إلى حد الاستهانة والزراية للعناصر الليبرالية المستنيرة التي اتهموها بالتعاطف مع الشيوعية وبالعجز عن رؤية ما تمثله الماركسية وتطبيقاتها من أخطار.
وفي حركتهم هذه كان ثمة نوع من الارتداد عن الفكر اليساري وكأنما خيبت الشيوعية السوفييتية آمالهم وحطمت ما كان يراودهم من أحلام. وعندما جاءت الخمسينات بآفة المكارثية التي اجتاحت الحياة الفكرية والفنية والإبداعية في أميركا وكأنها صيغة محدثة من محاكم التفتيش وأشاعت إرهابا فكريا في الولايات المتحدة بعد أن وجّهت لطلائع الفن والعلم والثقافة تهمة الشيوعية وأخضعتهم لطائلة المطاردة والابتزاز السياسي والتشهير المعنوي..
لجأ كثير منهم إلى الهروب من صفوف اليسار ولم يجد أمامه سوى جماعات المحافظين الجدد فزادهم عددا واستطاعوا إنشاء وترويج المطبوعات الدورية الخاصة بهم وفي مقدمتها مجلة «كومنتري» الشهيرة التي لا يخطئ قارئها خطها المتحيز لصالح الصهيونية وإسرائيل.
مسيرة طويلة قطعها فصيل المحافظين الجدد منذ الستينات إلى التسعينات.. صحيح أنهم تأثروا بالأستاذ الألماني المهاجر ليوشتراوس.. لكن ها هو مؤلفنا يسلط الضوء ـ ربما للمرة الأولى على اسم آخر هو البرت هولستتر.
أميركا عند مفترق طرق ـ الحلقة «3»
أستاذ المنطق الأميركي يضحي بملايين البشر على مذبح واشنطنهنا يجد القارئ نفسه على موعد مع شوط إضافي يقطعه المؤلف في محاولة تأصيل فكر المحافظين الجدد ورصد محطات تطوره، حيث ينتقل من أفكار بروفيسور ليو شتراوس إلى مساهمات البرت هولستتر مع التركيز بصفة خاصة على تشديد هولستتر على التوسع في إجراءات الردع والضربات الاستباقية للخصم.
ونحن لا نظل مع هذه الأفكار في إطارها النظري وإنما نتابع كيفية تحولها إلى واقع يطبق في إطار استراتيجية الأمن القومي الأميركي ويترك بصماته الدامية على امتداد العالم.
لم يعد من قبيل الترف الفكري ولا مجرد الممارسة الثقافية أو الرياضة العقلية أن نعكف في الوطن العربي أو حتى في العالم الثالث على تدارس وتحليل وفهم الطروحات النظرية التي صدرت في هذه المرحلة أو تلك عن كبار أساتذة العلوم السياسية وما في حكمها في الغرب بعامة وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص.
هذه النظريات أو المقولات تجاوزت مجرد كونها دروسا للتعليم: لقد استوعبها وآمن بسلامتها، ومن ثم تبناها إلى حيث الترجمة والتنفيذ أفواج من تلاميذ هؤلاء المعلمين الكبار وحوارييهم ومريديهم، وربما كان الأمر يهون لو كان هؤلاء التلاميذ أو المريدون قد اشتغلوا مثلا في سلك التدريس أو حتى انخرطوا في دنيا المال أو الأعمال:
إن المشكلة الكبيرة تجسدت في أن هؤلاء التلاميذ والأتباع الفكريين وضعتهم أقدارهم سواء في مؤسسات هندسة القرار وصوغ السياسات الداخلية والخارجية (مؤسسة راند مثلا في الولايات المتحدة) أو شاءت حظوظهم ـ السعيدة طبعا ـ أن يشغلوا مناصب خطيرة ومواقع (سوبر) مؤثرة بالقرب من مركز صنع القرار الاستراتيجي.
وهو بداهة قرار الحرب أو السلام أو هو عمليا قرار الحرب أو الحرب، وكان ذلك على مستوى الزمان هو تسعينات القرن الماضي وسنوات العقد الأول من هذا القرن الحادي والعشرين أي بعد انتهاء الحرب الباردة وتحويل مقاليد العالم من ثنائية القطبين إلى هيمنة القطب الواحد، أما على مستوى المكان.
فقد وقعت هذه التطورات على أرض الولايات المتحدة بكل ما تملكه من إمكانات وافرة وآلة حربية جبارة وتطلّع مرفوض، ولكنه مفهوم، إلى بسط السيطرة العالمية وتوسيع مناطق النفوذ.
البروفيسور هولستتر
في ضوء هذا كله نوافق مع مؤلف هذا الكتاب، أستاذ علم السياسة فرانسيس فوكوياما، على أهمية التوقف مليا عند اسم أستاذ أميركي كبير في علم السياسة وعلاقات الدول، لم تسلط عليه أضواء كاشفة رغم ما يؤكده فوكوياما من عمق نفوذه وتأثيره على مجريات ما يشهده زماننا من أحداث.البروفيسور ألبرت هولستتر هو الباحث الأكاديمي الكبير في مؤسسة «راند» التي تشكل، مع نظيرتها مؤسسة «بروكنغز» ركيزتي مواقع صوغ وهندسة الاستراتيجيات الأميركية في مجالات الأمن القومي والسياسة الخارجية والعلاقات الدولية.
عمل البروفيسور هولستتر في «راند» خلال سنوات بزوغها وعافيتها منذ الخمسينات ثم عمل بعد ذلك أستاذا لعلم المنطق الرياضي (!) في جامعة شيكاغو. ويكفي (ص 31) للتدليل على أهمية هذا المفكر أن نستعرض مع مؤلفنا قائمة موجزة للغاية من تلاميذه ومديريه.
وهي القائمة التي تضم أسماء من غلاة صقور السياسة الأميركية من قبيل بول ولفوفتز نائب وزير الدفاع سابقا وريتشارد بيرل وما زالوا يطلقون عليه لفرط تشدده لقب «أمير الظلام» وزلماي خليل زاد السفير الأميركي الحالي في بغداد وغيرهم من الشخصيات التي يؤكد مؤلفنا أنها تعمل ضمن إدارة بوش الحالية أو أنها مقربة للغاية من هذه الإدارة.
ما الذي نقله الأستاذ إلى تلاميذه من معتقدات وأفكار؟
ـ يقول مؤلفنا إن أهم أفكار ذلك الأستاذ تتمثل في إيمانه بضرورة التوسع في إجراءات الردع ومن ثم ضرورة تطوير أسلحة طويلة المدى شديدة الفعالية وفتاكة إلى حد الهلاك، ولكن شريطة أن تتسلم أميركا زمام الضربات الأولى كي تجهض ضربات الخصم أو تستبق مثل هذه الضربات.
ومن أفكاره أيضا عدم الالتفات إلى حكاية تطوير الطاقة النووية لأغراض السلام. إنه يرى صعوبة ـ وربما استحالة ـ الفصل بين استخدام الحرب واستعمال السلام فالتكنولوجيا واحدة. وفي هذا السياق بالذات يقول مؤلف الكتاب:
ـ إن كثيرا من مخاوف «هولستتر» تساق حاليا في معرض الحديث حاليا عن منطقة الشرق الأوسط وذلك في ضوء ما تؤكده إيران من حقها في ظل معاهدة عدم الانتشار الدولية في إنتاج يورانيوم مخّصب لأغراض الطاقة النووية المدنية، وذلك إجراء (يضيف مؤلف الكتاب) يهيئ غطاء ممتازا يستتر من تحته برنامج سري للأسلحة النووية.
وفي كل حال، فمثل هذه الأفكار أفضت بأستاذ المنطق الرياضي إلى دعوة التوسع في أساليب (وأسلحة) الردع ضد الخصم السوفييتي الذي كان، وبالتالي ضد أي طرف تراه أميركا غريما أو منافسا لها.
أرواح البشر
يلوح من السطور التي عكست أفكار هذا الأستاذ أن الرجل كان يتعامل مع حياة وأرواح البشر بعقل بارد شأن أي دارس لمنطق الرياضيات، هذه البرودة العقلية ـ الرياضية ـ جعلته لا يتورع عن حكاية استخدام الردع النووي وربما السلاح النووي فيصيب ملايين البشر، وبمنطق أن هذا أفضل (والمسائل نسبية لديه) من الحروب النووية التي قد تفضي إلى فناء البشرية بكل ملايينها!.ومن عجب أن تساعد على انتشار مثل هذا المنطق ملابسات حرب الخليج الأولى (تحرير الكويت) وخلالها تطورت خواص الدقة والضبط في وسائل القتال التي حملت اسم الأسلحة الذكية التي استطاعت.
ـ كما يتابع المؤلف ـ أن تحدد أهدافها المفردة فتصيب مركبة بعينها أو تهدم بناية بذاتها، هذا فضلا عما يشير إليه المؤلف أيضا من تطور في وسائل المعلومات الالكترونية والاتصالات الساتلية (عن طريق الأقمار الاصطناعية) وكلها أوصلت القوم ـ من مفكرين ومنظّرين ومنفذّين مدنيين وعسكريين.
وخاصة ضمن فصيل المحافظين الجدد، إلى الإيمان بإمكانية وسهولة عمليات التدخل العسكري وتغيير النظم الحاكمة تحت شعارات لامعة وجاذبة مثل نشر الديمقراطية وتكريس حقوق الإنسان، ودواعي الأمن النووي ومحاربة الإرهاب، إلى آخر ما في الجعبة من شعارات.
يقول كاتبنا في هذا الخصوص (ص 35): هذا التحول جاء مرتبطا أخف وأسرع وأكثر مرونة وحركية من أشكال القتال وهو ماتبناه وشجعه وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد ليضاعف من احتمالات التدخل الأميركي .
وخلق إحساسا بأن الحرب ستكون منخفضة الكلفة من ناحية خسائر الأرواح بين صفوف الأميركيين خاصة وأن حرب الخليج الأولى عام 1991 لم تسفر سوى عن أقل من 200 من خسائر الأرواح في مسرح العمليات، هذا فضلا عن أن التدخلات الصغيرة المتعددة التي تمت خلال حقبة كلينتون، في هاييتي والبوسنة ثم في كوسوفا لم تسفر عن قتيل أميركي واحد.
وهكذا بدا الأمر وكأن رامسفيلد كان يريد غزو العراق بأقل هيكل ممكن من القوة ومن منطلق إثبات الإمكانية العملية التي ينطوي عليها هذا النوع الجديد من أساليب إدارة الحرب.
بين ريغان وبوش
ويتحول بنا المؤلف ـ في هذا الفصل الثاني (وهو بالمناسبة أطول فصول الكتاب السبعة) إلى حيث يؤكد أن المحافظين الجدد يستمدون أجندتهم السياسية ـ فضلا عن النظرية أو الفكرية ـ من حقبة الرئيس الأسبق ريغان وهم يرفضون ما دعت إليه جين كير باتريك مندوبة أميركا السابقة لدى الأمم المتحدة من «تطبيع» الأوضاع بمعنى تهدئتها بعد نهاية الحرب الباردة.وبدلا من ذلك لا يزال المحافظون الجدد يدعون إلى حكاية «الهيمنة الخيرة» في ظل قيادة أميركا (ص 41) وهي السياسة التي توصف بأنها «مقاومة الحكام المستبدين الصاعدين والإيديولوجيات المعادية الناشئة والقضاء عليهم وعليها إذا ما كان ذلك ممكنا، وهي أيضا دعم المصالح الأميركية، وتقديم المساعدة للذين يكافحون ضد أسوأ مظاهر الشر».
وبصرف النظر عن حكاية مساعدة الكفاح ضد الشر وهو بالطبع سلوك حميد ـ فالواقع يقول إن دعاة هذه الآراء، وكان في مقدمتهم اثنان من غلاة المحافظين.
وهما الكاتبان السياسيان إيرفنج كريستول وروبرت كاجان، طرحا تفسيرهما لهذا السلوك التطوعي في مكافحة الشر على أساس أنه يعني بغير مواربة العمل على تغيير أنظمة الحكم ثم عمدا إلى توسيع هذه الدعوة المستغربة حسب قواعد القانون الدولي ـ لكي لا تقتصر فقط على النظم الحاكمة حتى في الدول التي وصفوها بأنها من وجهة نظرهم محور الشر مثل العراق أو كوريا الشمالية بل نادوا بالأمر نفسه أيضا بالنسبة للصين التي ما زالت في رأيهم أخطر خصومهم على الساحة الدولية الراهنة.
بيد أن الأمر لم يكن مرتبطا بالضرورة بحقائق وأوضاع وتطورات السياسة الدولية: لقد كان مرتبطا في الأساس بأجندة السياسة المحلية داخل أميركا نفسها، كان الحزب الجمهوري ـ وفي قلبه فصيل المحافظين الجدد ـ يطمح ويهيئ نفسه للوصول إلى السلطة في البيت الأبيض.
وبوحي من هذه التطلعات نادت عناصر من الجمهوريين والمحافظين بما وصفوه بأنه «المشروع» القومي الذي يكرس عظمة أميركا ويحّول الأنظار والاهتمامات عن قضايا تنال من هذه العظمة ـ ابتداء من مشاكل البورصة في وول ستريت إلى فضيحة مونيكا لوينسكي.
وكانوا يدركون أن وصول الحزب الجمهوري إلى السلطة واستمراره بل وازدهاره في مضمارها أمر يتحقق بالذات عندما يرتبط الخطاب السياسي والاهتمام الجماهيري العام بقضايا السياسة الخارجية قبل ارتباطه بمشاكل السياسة المحلية أو بأحوال الاقتصاد داخل الولايات المتحدة ذاتها.
والحاصل أن أثمرت استعدادات ومقولات التسعينات فكان أن وصل إلى السلطة رئيس جديد من تكساس هو جورج دبليو بوش ويومها سارع المحللون الجمهوريون إلى القول بأن الرئيس الجديد سوف يتخذ قدوته ونموذجه المفضل من الرئيس رونالد ريغان.
هنالك يطرح مؤلف كتابنا سؤالا بديهيا: هل يمكن أن نعد ريغان من فصيل المحافظين الجدد وإلى أي حد نعتبر الرئيس الحالي بوش منتميا إلى هذا الفصيل؟ .
في حالة ريغان يرى المؤلف أن الرجل تنطبق عليه شروط الانتماء لفصيل «النيوكونز»: كان يطرح أفكاراً عمومية ومتشددة لا تقصد سوى إظهار العداء للشيوعية ومهاجمة الاتحاد السوفييتي والدعوة إلى السوق المفتوحة (فري ماركت) وإلى شيء آخر يحمل اسم القيم الأميركية.
في حالة جورج بوش يتصور المؤلف أن الرئيس الحالي انضم إلى صفوف المحافظين الجدد في مستهل ولايته الثانية في عام 2004، وفي هذا الخصوص يستعيد المؤلف عبارات بوش إذ كان مرشحا للولاية الأولى حين أعرب عن اعتقاده بضرورة استخدام القوات الأميركية المسلحة لكي تحارب وتنتصر وليس في بناء الدول.
وربما عبرت مستشارته الأثيرة كوندوليزا رايس عن هذا التحفظ في توسع استخدام القوات الأميركية حين طالبت إدارة كلينتون بإعادة هذه القوات من أرض البلقان رغم أنهم أرسلوا هذه القوات تحت شعار التدخل الإنساني ويومها قالت رايس:
ـ لا ينبغي استخدام القوات الأميركية لمرافقة التلاميذ إلى مدارسهم.
أين هذا الانتقاد للتدخل الإنساني من حقيقة التدخل المباشر، المسلح والصريح في بلد مثل العراق حيث كان السبب المطروح في الولاية الأولى هو أسلحة الدمار الشامل فيما تحولت الأسباب لكي تعانق مقولات المحافظين الجدد فإذا بالسيد بوش يصرف النظر في افتتاح الولاية الثانية عن حكاية الإرهاب أو الأمن القومي ويتكلم عن تعميم ونشر القيم الديمقراطية على نحو ما يردد المحافظون.
أكذوبة أسلحة الدمار
ربما أثارت هذه التحولات عجب أو حتى فضول المحللين والمعلقين، خاصة وقد دأبت الإدارة الأميركية على تضخيم وربما تهويل ما وصفته بأنه الخطر المتربص المزدوج النابع ـ بعد سبتمبر 2001 من مصدرينالأول يحمل اسم «الإسلام الراديكالي (بمعنى المتشدد أو المتطرف).
الثاني يحمل عنوان «أسلحة الدمار الشامل» مع ذلك يسارع فوكوياما ليؤكد أن كلا المصدرين ليسا مستجدين على الفهم والممارسة السياسية في أميركا، فالمصدر الأول للخطر كان قائما أو كان مطروحا أو كان مرصودا منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979، أما المصدر الثاني فكان بدوره راسخا ومستقرا منذ فجر العصر النووي على حد تعبير مؤلف الكتاب.
في الفصل الثالث من كتابنا يناقش المؤلف هذه الأخطار ومصادرها على نحو ما يتصوره الأميركيون. وشأن أي أكاديمي محترف، يبادر المؤلف إلى الاهتمام بتحديد التعريفات وضبط المفاهيم وتحرير المصطلحات، يقول (ص 69):
هناك خطوط فاصلة للتمييز بين الأصوليين الإسلاميين والمتطرفين الإسلاميين والمتشددين الإسلاميين وبين المسلمين العاديين. والمطلوب التمييز بين كل منهم بقدر ما أن المطلوب التفرقة مثلا بين أسامة بن لادن ودعوته وبين حزب العدالة والرفاه ووصول الإسلاميين إلى الحكم بالانتخاب الديمقراطي في تركيا.
في السياق نفسه يرفض فوكوياما ما يذهب إليه بعض محللي المحافظين الجدد من أن المتطرفين الذين يرفعون الشعار الإسلامي يريدون إقامة نظم تكرّس العنف وتعادي الغرب، بقدر ما يحيل المؤلف (ص 73) إلى مؤرخين معاصرين مثل ألان ورويا بورماند اللذين يقولان «إن كثيرا من أفكار الإسلام الراديكالي ـ (المتشدد أو المتطرف) لم تأت من معين الإسلام بل استمدت أصولها من أفكار ونظريات وتجارب الغرب.
ويسوق هذان المؤرخان أمثلة عن حركات التطرف التي يشهدها الغرب نفسه ما بين الفاشية إلى الماركسية إلى اللينينية وما في حكمها ثم يعلق المؤلف على هذا الطرح قائلا (ص 73):
ـ إن ما يشير إليه هذا الرأي هو إننا لسنا منغمسين حاليا في ما يشبه «صدام الحضارات» بل في أمر أقرب إلى ما لمسناه عن قرب خلال سنوات القرن العشرين.
إن أخطر البشر ـ يضيف المؤلف ـ ليسوا المسلمين الأتقياء في الشرق الأوسط بل هم الشباب الذي يعاني التهميش وانقطاع الجذور والاغتراب في هامبورغ ولندن أو أمستردام ممن ينشدون في الأيديولوجية (تحت شعار الجهاد هذه المرة) إجابة على بحثهم الشخصي عن الهوية، وقد سبقتهم إلى ذلك جماعات الفاشيين أو الماركسيين.
في نفس المضمار يضيف مؤلفنا: ولو صح هذا التفسير لطبيعة التهديد «الجهادي» كما يسميه ـ فقد تترتب عليه نتائج بالنسبة لطبيعة الإجراءات المطلوب اتخاذها وأولها أن ساحة المقاومة ستكون في أوروبا الغربية بقدر ما إنها في الشرق الأوسط.
وثانيهما أن أميركا يمكن أن تكون في مقدمة التعرض للخطر ولكن ليس من سكانها المسلمين على نحو ما يهدد الأقطار الأوروبية، وثالثها أن الديمقراطية لن تكون هي الحل الناجع في الأجل القصير لمشكلة الإرهاب.
فقد هوجمت مجتمعات ديمقراطية في أسبانيا وانجلترا وهولندا وسيكون الحل هو العمل على دمج الشباب الساخط المغترب في صلب الحركة والحياة الطبيعية في تلك المجتمعات الأوروبية.
لماذا يكرهون أميركا ؟
ثم ينتقل بنا الكتاب إلى مبحث آخر يحمل العنوان المتكرر باستمرار وهو «كراهية الناس لأميركا» يقول المؤلف (ص 76): استطلاعات الرأي العام تفيد بأن السواد الأعظم من المسلمين لا يكرهون أميركا ولا الغرب، إنهم يكرهون بالأحرى السياسة الخارجية التي تتبعها أميركا .ويرون أن أميركا تؤيد إسرائيل على طول الخط ضد الفلسطينيين وتساند حكاما عربا مستبدين، على حساب الديمقراطية، وتلك رسالة لا يريد سماعها جمهرة الأميركيين وكثير من المحافظين الجدد بالذات.
المحافظون الجدد على وجه الخصوص هم الذين ظلوا يضغطون باتجاه غزو العراق، وعندما زاد ضغطهم على إدارة بوش لعبت هذه الإدارة بورقة التهديد المباشر لعراق صدام حسين ضد الوطن والأراضي الأميركية نفسها.
وفعلت ذلك ـ كما يقول المؤلف ـ «لأن 11 سبتمبر أتاح فرصة جديدة لم تكن منظورة من قبل لإقناع الشعب الأميركي بالحاجة إلى اتخاذ إجراء عسكري ضد العراق. والمشكلة أن انتهازية هذه الخطوة ما لبثت أن ارتدت سهما أصاب إدارة بوش نفسها بعد الحرب.
وذلك عندما اتضحت بجلاء كذبة أسلحة الدمار مما أفضى إلى تزايد الشكوك والوساوس لدى الذين لم يثقوا أصلا في أميركا وقالوا إن دوافعها الأصلية إنما تفسر بعاملين أولهما اسمه البترول والثاني اسمه إسرائيل».
والمشكلة أن حكاية أسلحة صدام التدميرية الشاملة ـ دع عنك النووية والكيميائية ـ استخدموها مبررا لإشعال حرب ضروس في الشرق الأوسط واجتياح بلد عربي كبير له تاريخ وتراث وثقافة ويسكنه شعب متعدد الأعراق تعايشت عناصره وتفاعلت وعملت وانتجت وتعلمت على مر عقود وقرون.
وكان الشعار المطروح ـ ولعله لا يزال ـ هو شعار الحرب الاستباقية، أو الضربات الإجهاضية: بادر إلى ضرب الخصم لأنه يستعد لكي يضربك.
ولم يكن الأمر مجرد شعار أو كلام في كلام ظل يلوكه فصيل المحافظين الجدد، لقد أصبح الأمر بندا أساسيا من بنود استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة وعمدت إلى تضمينه وتكريسه وثيقة في غاية الخطورة صدرت في سبتمبر عام 2002 وما زالت تحمل اسمها المختصر وهو «إن إس إتش» وهي الوثيقة التي يحللها المؤلف ويعلق عليها في نهايات الفصل الثالث من هذا الكتاب.
أميركا عند مفترق طرق -الحلقة «4» -
هكذا أطلت أخطاء استراتيجية الأمن القومي الأميركي
ينتقل بنا المؤلف عند هذا المنعطف من كتابه من تأصيل أفكار المحافظين الجدد إلى متابعة الكيفية التي ترجمت بها هذه الأفكار في استراتيجية الأمن القومي الأميركي، التي ولدت وفي رحمها مشكلاتها وفي مقدمتها دعوة الإدارة الأميركية إلى شن الحروب الاستباقية على امتداد العالم بأسره، الأمر الذي وصل بواشنطن إلى أقصى حدود خيارات التطرف، التي يحذر المؤلف من أن أميركا ستدفع ثمنها غالياً وفادحاً.
في سبتمبر من عام 2002 كانت الولايات المتحدة في حال من التوتر العصبي وفي مزاجية شديدة السواد. كيف لا وكان قد مضى عام بالتمام ولكن بغير الكمال على ضربة الحادي عشر من سبتمبر من سنة 2001 وها هي أميركا - الشعب والإدارة والإعلام - تحيي ذكريات ذلك اليوم الصعب بكل ما حفل به من ذكريات الدمار وضياع أرواح بريئة وعدوان على الأمن القومي لبلد مهم وكبير.
وفي غمار هذا كله، صدرت الوثيقة فائقة الأهمية التي يحرص على تحليلها مؤلف هذا الكتاب. ما زالت الوثيقة تشكل محور اهتمام الباحثين والمحللين والمتابعين للشأن الأميركي بشكل عام. يعرفها معظمهم برموزها المختصرة وهي: إن. إس. إس. ويعرفها المراقبون بعنوانها المسهب بالغ الدلالة وهو: استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة.
في معرض تحليلها يسلّم مؤلفنا، البروفيسور فوكوياما، بأنها طرحت أفكارا سبقت إلى طرحها إدارات شتى وخاصة فيما يتعلق بحكاية الدفاع الاستباقي أو الضربة الأولى الإجهاضية، وقد تجلى هذا المبدأ مثلا في أزمة الصواريخ الكوبية الشهيرة التي هدد فيها الرئيس جون كينيدي في عام 1961 بتوجيه الضربة الأولى بحق الخصم السوفييتي.
استراتيجية الأمن الأميركي
إذن ما هو الجديد الذي جاءت به استراتيجية الأمن القومي التي حملت أفكار المحافظين الجدد وتبنتها، ومن ثم أصدرتها، وتعكف على تنفيذها إدارة الرئيس بوش في الوقت الحالي؟ هذا الجديد يوضحه المؤلف ببساطة (ص 83 وما بعدها) في أنه يتمثل في توسيع الأفكار التقليدية عن ضربات الإجهاض أو الاستباق إلى حيث وصل الأمر إلى حد شن الحرب الوقائية.وكانت المشكلة أن الضربات الإجهاضية أو الاستباقية إنما تقتضي بالضرورة أو حسب أعراف المجتمع البشري المتحضر في العصر الحديث أن يكون ثمة خطر ماثل وحال (بتشديد اللام) وداهم من ناحية التهديد بالفعل العسكري، ولكن إدارة بوش دفعت بأننا نعيش العصر الذي يمكن أن يتسلح فيه الإرهابيون بالأسلحة النووية، ومن ثم فقد أصبح التمييز بين الضربات الإجهاضية وضربات الحرب الوقائية أمرا تجاوزه الزمن.
ما معنى هذا كله ؟
يجيب فوكوياما: معناه أن أميركا سوف تجد من الضروري أن تمدد وجودها بصورة دورية إلى داخل الدول كي توجد ظروفا وأوضاعا سياسية من شأنها منع الإرهاب. مرة أخرى نطرح السؤال بصورة أكثر إلحاحا: ما معنى هذا من منظور القانون الدولي والضوابط والأعراف التي تحدد العلاقات بين الدول؟ .
يعود فوكوياما إلى الإجابة قائلا: معناه أن مثل هذه الأفكار ترفض (بمعنى تتجاهل) مفاهيم ومبادئ وستفاليا (يقصد طبعا المعاهدة الشهيرة الموقعة في عام 1648) بشأن ضرورة احترام سيادة الدول والتعامل مع الحكومات القائمة فيها. وهكذا وُلدت وثيقة الأمن القومي الأميركي وفي رحمها مشكلاتها التي تجسدت أساسا في دعوة الإدارة إلى شن الحروب الاستباقية أو توجيه الضربات العسكرية الإجهاضية أو تنفيذ العمليات الحربية الوقائية (لدفع خطر داهم أو اتقاء تهديد ماثل أمام العيان).
هذه الدعوة كان معناها، برأي مؤلفنا ـ أن ثمة خطرا داهما مع حلول عام 2003 يهدد بالفعل والتو أمن الولايات المتحدة وسلامة مواطنيها. هنا يسترسل المؤلف قائلا: لكن المشكلة أن الأمر ما لبث أن انكشف ليوضح أن إدارة بوش كانت قد بالغت إلى حد الغلو في تقدير خطر التهديد من جانب العراق بخاصة وخطر الإرهاب النووي بشكل عام.
ثم جاءت التجربة العملية في حرب العراق لتؤكد من جديد أهمية التمييز باستمرار بين الحرب الاستباقية والحرب الوقائية، فنحن - يؤكد المؤلف - لم نتحول بغتة إلى عالم تدأب فيه (حتى) الدول المارقة على أن تسلّم دوريا أسلحة دمار شامل إلى الإرهابيين، ربما تنشأ يوما مثل هذه النوعية من الدول، لكن أن نتصرف الآن كما لو كانت هذه الدول موجودة (وفاعلة) فذلك أمر يصل بنا إلى حدود خيارات التطرف التي لا بد أن ندفع ثمنها غاليا وفادحا.
حرب يصعب تبريرها
في السياق نفسه يواصل فوكوياما هذا الخط من التحليل فيقول: حتى في ظل ظروف ما بعد 11 سبتمبر، تظل الحرب الوقائية صعبة التبرير إلى حد كبير ولا ينبغي اللجوء إلى شنّها إلا وفق شروط صارمة وحازمة وشديدة التقييد. ويواصل البروفيسور فوكوياما مرافعته ضد حروب وتصورات المحافظين الجدد مستندا هذه المرة إلى وقائع التاريخ القريب،وفي هذا يقول: من الأسباب الداعية إلى التعامل مع الحرب الوقائية بصورة حكيمة وصبورة ورزينة، أن هذا النوع من الحرب يتوقف على قدرتك على أن تقرأ المستقبل بصورة دقيقة، ولنأخذ مثلا من حرب 1956 (العدوان الثلاثي على بورسعيد المصرية) يومها تصور رئيس الوزراء البريطاني أنطوني إيدن أن الزعيم العربي جمال عبد الناصر ما هو إلا هتلر جديد، وأن ناصر (بعد تأميم قناة السويس وذيوع صيته في الشرق الأوسط) يشكل في منتصف الخمسينات الخطر نفسه الذي كان يمثله هتلر في منتصف الثلاثينات، وطبعا كان إيدن على خطأ، وقد دفع ثمن أخطائه.
وها هي واشنطن تدفع ثمن أخطائها في المبادرة الخطيرة والمتسرعة إلى غزو العراق، ومع ذلك فإن إدارة بوش تتصور أنها بهذا الغزو لم تكن تنطلق من مصالحها الذاتية الضيقة بل إنها كانت تعمل من أجل الصالح العام بالدرجة الأولى. وكان من الطبيعي أن يفضي هذا الخطأ في التصورات إلى فشلها الذي يسجله المؤلف في مستهل الفصل الرابع، حيث لم تفلح أجهزة الرصد (الاستخبارات بالذات واستطلاعات الرأي) داخل الإدارة الأميركية في استباق ردود الفعل السلبية إزاء إشعال الحرب في أرض العراق.
في سياق الفصل الرابع يقول المؤلف: كثيرون هم الذين أكدوا أن إدارة بوش تتعامل بمنطق الاستهانة مع الرأي العام العالمي ومع المشروعية التي تجسدها المنظمات الدولية، ورغم أن هناك في واقع الأمر عناصر تتعامل بازدراء مع الأمم المتحدة إلا أن الاستهانة بالأمم المتحدة شيء، وازدراء الشرعية الدولية شيء آخر.
بين السياسة والقانون
مع ذلك فقد ظلت مشروعية تصرفات واشنطن إزاء حرب العراق أمرا أقرب إلى مجال السياسة منه إلى مضمار القانون الدولي هذا ما يعرض به مؤلف الكتاب (ص 97) وهو يدلل على رأيه قائلا: عشية تلك الحرب، كان واضحا أن الغالبية العظمى من الرأي العام العالمي تعارض الغزو الأميركي بما في ذلك غالبية من مواطني الأقطار التي أيدت أميركا رسميا، ومنها مثلا بريطانيا واسبانيا وإيطاليا. وما كانت هذه المعارضة (الشعبية) ستكتسب معنى أو مغزى لو كانت أميركا قد استطاعت بعد الحدث أن تبرهن على منطقية أو وجاهة التدخل الذي قامت به في العراق، كأن تثبت مثلا وجود ما كانت تتحدث عنه من أسلحة الدمار الشامل. وفي كل حال فقد كان هذا هو نوع الشرعية السياسية الذي تعودت أميركا أن تلتمسه لدى اندلاع أزمات سابقة.ويواصل المؤلف تحليله في هذه النقطة محاولا تكييف أسباب معارضته حرب العراق فيقول: في مقدمة هذه الأسباب هي تلك الظاهرة التي جاءت بها إستراتيجية الأمن القومي التي ألمحنا إليها وقد حملت عنوانا أو عبرت عن اتجاه أو شعار يقول: التفرد الأميركي بمعنى أن أميركا تتمتع باستثناء أو أن ما يصلح لها مقصور عليها دون أن يصلح للآخرين. (المؤلف يختار شعار هذا الاستثناء الأميركي عنوانا لهذا الفصل الرابع من الكتاب).
ويستطرد المؤلف معلقا على هذا الاتجاه فيقول: من الواضح أنه لا يجوز أن نطمئن إلى تعميم أي مبدأ للحرب الوقائية (الاستباقية) على صعيد النظام الدولي برمّته. هناك أقطار كثيرة تواجه تهديدات من جانب الإرهابيين وقد يغريها الأمر فتشرع في مجابهتهم عن طريق هذا التدخل الاستباقي أو من خلال الإطاحة بالحكومات وتغيير نظم الحكم التي تعتبر مأوى لهؤلاء الإرهابيين، في إطار هذه الفئة تندرج أقطار مثل روسيا والصين والهند، ولكن لو أن أيا من هذه البلدان أعلن يوما استراتيجية لحرب وقائية أو استباقية بوصفها وسيلة للتعامل مع الإرهابيين، لكانت أميركا أول من يعارض هذا السلوك بطبيعة الحال. (ومن عجب) أن إستراتيجية الأمن القومي التي أشرنا إليها تستند إلى حقيقة أن أميركا قد منحت نفسها حقا تنكره على دول أخرى، لأن أميركا ترى نفسها بلدا مختلفا عن سائر البلدان وبمعنى أنه يمكن الثقة في استخدامه لقوته العسكرية من منطلق العدل والحكمة وبصورة لا يستطيع أن يحققها الآخرون! .
هنا يلمح المؤلف، بل يرصد، تأثيرات مفكري المحافظين الجدد، فها هو كاتبهم الأثير تشارلي كروثامر يكتب بعد انتهاء الحرب الباردة وزوال الاتحاد السوفيتي عما وصفه بأنه «لحظة القطب الواحد» بمعنى أنه لم تبق قوة يعتد بها على ظهر البسيطة يمكن أن تناجز أو تتحدى الهيمنة الأميركية (ص 102) وها هما الكاتبان ويليام كريستول وروبرت كاجان (وهما من أعمدة المحافظين) يبشران بدور أميركا في ممارسة «الهيمنة الخيرة» التي لن تلقى مقاومة من أحد بفضل ما تتمتع به أميركا من فضائل غير معتادة وأخلاقيات استثنائية.
وهنا يخلص أيضا المؤلف إلى سطور يقول فيها (ص 103): من الصعب أن نقرأ مثل هذه السطور بغير شعور بالسخرية (أو المفارقة) وخاصة في ضوء ردود الفعل العالمية إزاء حرب العراق. فليس يكفي أن الأميركيين يؤمنون بنواياهم الطيبة أو نوازع الخير التي يصدرون عنها، بل الأهم ضرورة أن يقتنع غير الأميركيين أيضا بمثل هذه النوايا أو الدوافع، وقبل أن تتقبل البلدان الأخرى زعامة أميركا، لا بد من إقناعها لا بحسن نوايا أميركا فقط، بل بأن أميركا سوف تستخدم قوتها (إمكاناتها الجبارة) بحكمة ومن خلال هذه الحكمة تنجح في تحقيق ما رسمته لنفسها من أهداف.
أخطاء في الحسابات
فضلا عن ذلك، كانت هناك ـ على نحو ما يوضح كتابنا ـ أخطاء شتى في مجال الشعار المطروح والسياسة المعلنة والرسالة الإعلامية المطلوب توصيلها إلى هذا القطاع أو ذاك:* أولا، كان هناك خلط في فهم الجمهور المستهدف لكي يتلقى رسالة الإدارة الأميركية. لقد أعلن الرئيس بوش شعاره الشهير «إما أن تكون معنا أو تكون ضدنا» وربما كان يقصد به أقطارا مثل باكستان أو اليمن، ولكن المشكلة أن الرسالة سمعوها أيضا في أوروبا وفهمتها الشعوب الأوروبية على أنها صفقة إجبارية يعرضها بوش: إما أن تكون جزءا من تحالفنا (الغربي) أو عليك أن تفارقنا وتذهب إلى بعيد، ولم تكن النتيجة سعيدة بطبيعة الحال.
* ومن هذه الأخطاء أيضا أن عسكرية البنتاغون تجاوزت دبلوماسية وزارة الخارجية، وأن جنرالات العسكر سبقت جنرالات الدبلوماسية (كولن باول في هذه الفترة) وها هو مؤلفنا ينتقد الجنرال باول وزير الخارجية السابق لأنه «تكلم أقل مما ينبغي وسافر أقل من رحلات أسلافه في الخارجية (ربما تكون رحلات كيسنجر المكوكية، في ذهن المؤلف) وكانت المحصلة هي أن قعقعة السلاح تغلبت على مفاوضات الدبلوماسية.
* ثم كانت هناك ظاهرة العولمة التي تجلت مع عقد التسعينات وأسلمت قيادها لأميركا وهي الظاهرة التي قوبلت بردود أفعال في أقطار شتى من العالم ويصفها الكتاب (ص 18) بأنها كانت مزيجا من الانبهار والحسد والغيرة والخوف والحنق - وكان هذا المزيج موجها إلى أميركا بالدرجة الأولى -
خاصة وقد رافقت العولمة سلوكيات أميركية محضة جاء في مقدمتها تلك الدعوة الموروثة من أيام ريغان في واشنطن (وتاتشر في لندن) إلى تقزيم دور الدولة وإلى فك القواعد الناظمة وإلغاء الضوابط التي تحكم وتهندس حركة المجتمع ونشاط الاقتصاد، تحت شعار مزيد من الليبرالية - كل هذا قوبل بقدر ظاهر من القلق .
بل ومن التشكك لدرجة أن كان هناك من رفض دعوة أميركا الذائعة والمتواصلة إلى ما يوصف بأنه تحرير الأسواق في جميع أنحاء العالم، على أساس أنها دعوة ظاهرها الإصلاح ولكنها في باطنها محاولة من جانب أميركا لكي تفرض قيمها التي تعادي الدولة على سائر شعوب العالم وكأن المطلوب هو «سياق إلى القاع» (ص 109).
بيد أن أفكار وخطوات إدارة واشنطن، وقد انتمى فلاسفتها في معظمهم إلى فصيل المحافظين الجدد - لم تقتصر بطبيعة الحال على مجالات السياسة الخارجية أو المجهود الحربي أو العلاقات الدولية حيث استشرت - كما ألمحنا مع المؤلف - دعوات الهيمنة الخيرة أو الحرب الاستباقية أو من ليس معنا فهو مع عدونا أو مع الإرهاب،. الخ.
لقد كان على فصيل المحافظين الجدد أن يتحملوا المسؤولية عن قضايا ناجمة بالضرورة عن الحروب التي دعوا إلى شنها وبذلوا قصاراهم في محاولة تبريرها على صعيد الولايات المتحدة ذاتها. ومن أجل ذلك وضعوا النظريات وحشدوا المؤتمرات والأكاديميات هنا يتحول بنا الحديث مع مؤلفنا إلى الفصل الخامس من كتابه وقد اختار له البروفيسور فوكوياما العنوان التالي: الهندسة الاجتماعية ومشكلة التنمية.
ولما كانت السياسة الخارجية والسياسة الداخلية وجهين لعملة واحدة تحددها سياسة الدولة وتوجهات الإدارة الحاكمة فيها، فإننا نرى أن المؤلف يوسّع إطار تعامله مع قضايا هندسة المجتمعات ومسار تطورها وعوامل تنميتها كيما يشمل أيضا المجتمعات والأقطار التي سعت أميركا نفسها إلى معالجة أمورها والتفاعل والتعاطي مع شؤونها بالسلب وبالإيجاب وبديهي أن يكون في المقدمة المجتمع العراقي الذي ندبت واشنطن نفسها - طبقا لشعاراتها المعلنة قبل الحرب وفي غمارها - لكي تتحول به من جحيم الديكتاتورية إلى حيث واحة الديمقراطية.
بين الرئيس ونائبه
لكن المشكلة هي ما يوضحه المؤلف - في مستهل هذا الفصل الخامس (ص 115) أن إدارة بوش ومفكريها من المحافظين لم «يحسبوها» جيدا، وصار من الصعب عليهم أن يعترفوا بأنهم استهانوا كثيرا بتكاليف ومغارم إعادة تعمير العراق (بسبب ما دمرته الحرب) ومن ثم قيادة مسيرته نحو التحول الديمقراطي. وهنا يرصد المؤلف عواقب ومظاهر هذا الحساب الخاطئ عندما يشير إلى تصريحات ديك تشيني نائب الرئيس وقد أذيعت على التلفزيونوأكد فيها «أننا سوف نتقبل التحديات (في العراق) بوصفنا «محرريه» (يخيل إلينا أن نائب الرئيس الأميركي لا يزال يفكر بعقلية جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية حيث كان الجنود الأميركان يُستقبلون في أواخر أيام تلك الحرب كمحررين لأقطار في غرب أوروبا، وكان ذلك بعد اندحار قوات هتلر النازية، ثم جاءت هوليوود بأفلامها ورواياتها وأوهامها الملونة فزادت حكاية الأميركي المحرر - اللبراتور بهاء وخيالا وجاذبية وتأكيدا).
وبعد النائب لا يفوت مؤلف الكتاب أيضا أن يتطرق إلى الشعار الذي وقف تحته يوما الرئيس بوش شخصيا وهو شعار «لقد تم إنجاز المهمة». وفي هذا يقول مؤلفنا: ما كان الرئيس بوش يقبل أن يهبط على متن حاملة طائرات ترفع شعار «إنجاز المهمة» لو كان يعرف أن الأمر سيظل يقتضي 150 ألف جندي أميركي يواصلون القتال ضد قوى رافضة ومتمردة وعاتية ولمدة عامين بعد ذلك التاريخ.
وبعيدا عن هذه الطروحات السياسية، أو ما واكبها من خطأ في الحسابات، يعمد المؤلف إلى استعراض سجل الطرح الفكري للمحافظين الجدد الذين دأبوا خلال حقبة كلينتون على الترويج لدعوة نشر الديمقراطية في العالم، لا من خلال الإقناع والتواصل السياسي، ولا من خلال الترويج لاتباع أساليب جديدة إزاء متطلبات التعمير وإعادة بناء المجتمعات الخارجة من أتون الحروب أو الصراعات الملتهبة، ولا دعم المؤسسات المدنية الناشطة في تلك المجتمعات، ولا حتى التنمية الاقتصادية، ولا استخدام ما يوصف بأنه الدبلوماسية العامة التي تحرص على التواصل مع النُخب المثقفة (الانتلجنتسيا) ومنها يمكن الوصول إلى القواعد الشعبية طلبا لتأييدها، أو على الأقل من أجل حشدها لصالح التحولات الديمقراطية المرتقبة والمأمولة، لقد أهمل المحافظون الجدد كل هذه المسالك الآمنة والمعقولة، وقصاراهم - كما يشير مؤلفنا (ص 117) - أن دعوا إلى زيادة الإنفاق الدفاعي ومن ثم إلى الصعود بجبروت الآلة الحربية للولايات المتحدة ودورها فوق خريطة العالم، وكان يدفعهم في ذلك، وبالدرجة الأولى، بغضهم العميق وانتقاداتهم المتواصلة للإدارة الديمقراطية في عهد بيل كلينتون، بيد أن المؤلف يكاد يشير إلى أن المحافظين - الجمهوريين لم يكن منطلقهم شريرا بقدر ما كان ساذجا، وفي هذا يقول الأستاذ فوكوياما: يبدو أنهم افترضوا أن المؤسسات (الديمقراطية والمدنية) سوف تقوم وتنهض من تلقاء نفسها فور أن تكون الولايات المتحدة قد أنجزت مهمتها البالغة الصعوبة مجسدة في تغيير النظم القمعية.
نعم كان الأمر - بعد الحرب - يتطلب، وهو ما برح يتطلب - ممارسة ما يطلق عليه مؤلفنا مصطلح «الهندسة الاجتماعية». في هذا الخصوص يسهب المؤلف في استعراض وتحليل مشاكل وأدوار البلدان المتخلفة والنامية، لا من منظور حاجتها إلى رأس المال المادي (من موارد وماكينات وأحوال نقدية)، ولكن أساسا إلى رأس المال البشري الذي تدنى إلى قاع عميق بسبب ما يرصده فوكوياما من انخفاض، ربما انهيار، مستوى التعليم والعلم والبحث والتطوير في هذه الأقطار، وبسبب عوامل سلبية شتى داخلية وخارجية على السواء.
نلاحظ ونحن نقترب من الفصلين الأخيرين من هذا الكتاب تكرار مقطع (ري) المرادف في الإنجليزية لمعنى المعاودة أو المراجعة، أو بذل المحاولات من جديد. هنالك يدعو المؤلف إلى «إعادة» التفكير في التنمية وإلى «إعادة» تشكيلة مؤسسات الفكر والثقافة والإعلام والاتصال في أميركا ثم إلى «إعادة» تصور المؤسسات العاملة على صعيد النظام الدولي.
والعبارة الأخيرة هي التي اختارها فوكوياما عنوانا للفصل السادس قبل الأخير من هذا الكتاب.
أميركا عند مفترق طرق ـ الحلقة «5»
المحافظون الجدد يكرهون الأمم المتحدة وهذه مبرراتهم
يتناول المؤلف هنا قضيتين على جانب كبير من الأهمية، فهو يتناول المؤسسات الأميركية المتعلقة بما يعرف بالقوى اللينة، ويحذر من غياب التنسيق بين هذه المؤسسات وافتقارها إلى الحد الأدنى الضروري من التناغم بينها، وهو من ناحية أخرى يدعو إلى إعادة التفكير في مؤسسات النظام الدولي.
ولا يتردد في الإعراب عن اعتقاده بأن الأمم المتحدة بوضعها الراهن لا تستطيع التصدي للقيام بالدور المطلوب منها، وهكذا فإنه يبادر إلى طرح البديل أو البدائل عن هذه المنظمة، ويدعو إلى استحداث مؤسسات دولية جديدة وتكييف ما هو قائم مع الظروف المستجدة على المسرح الدولي.في الصفحات الأخيرة من الفصل الخامس يتوقف المؤلف، بقدر من التأمل، عند مسألة «القوى الناعمة أو القوى اللينة أو غير المادية»، ويطرح تأملاته هذه تحت شعار يقول: مطلوب إعادة تشكيل، أو إصلاح المؤسسات الأميركية المعنية بالقوى الناعمة.
وقبل أن يحدد للقارئ ماهية هذا المطلوب أو أسلوب تلبيته، يحرص على إيضاح أن «القوى الناعمة أو القوى اللينة» مصطلح صاغه جوزيف ناي وهو أستاذ جامعي وكان من مسؤولي إدارة كلينتون السابقة لكي يصف به القدرة على أن تحصل على ما تريد من خلال الجاذبية البناءة والمؤثرة التي تتمتع بها القيم التي تجسدها أو تدعو إليها ـ وذلك بدلاً من أن تلجأ إلى القوى الخشنة التي تجسدها من الناحية المقابلة الآلة العسكرية أو الضغط الاقتصادي.
بيد أن مؤلفنا فوكوياما يشعر بأن هذا التعريف منقوص لأنه لا يشمل كل الحالات التي تصادف العمل السياسي ولا يتعرض لجميع المؤسسات المطلوب إصلاحها، إن طرح شروط معينة لدى تعميم المعونة الاقتصادية من جانب الوكالات والهيئات الإنمائية، يمثل نوعا من أنواع الضغط أو الإكراه الاقتصادي ومع ذلك فهو أمر جائز إلى حد ليس بالقليل رغم كونه قوة خشنة كما نسميها، وهو جائز بالمقارنة مع احتمالات اللجوء إلى قوى خشنة أخرى شديدة القسوة بالغة الفظاظة ونعني بها القوى العسكرية بطبيعة الحال.
غياب التنسيق
من هنا لا تكمن المشكلة في نوعية ولا حتى أساليب المؤسسات التي تستخدم، أو لا تستخدم، القوى الناعمة، إنها تكمن في غياب التنسيق والتناغم بين تلك المؤسسات فضلا عن تعددها ومن ثم تناثرها وتشتت جهودها.المؤلف يسوق لنا مثلا من حكاية إدارة بوش الحالية مع الديمقراطية.
لقد عمدت هذه الإدارة لأسباب شتى.. بعضها مازال مجهولا أو شبه مجهول، إلى جعل الديمقراطية أو التحول الديمقراطي محوراً لسياسة بوش (والمحافظين الجدد) في منطقة الشرق الأوسط. مع ذلك يقول المؤلف إن الأسلوب الذي نظمت به حكومة بوش صفوفها أو حشدت بواسطته إمكاناتها أو مؤسساتها مازال أسلوبا قاصرا ويحتاج إلى كثير من تقويم وتعديل.
ويكفي ـ يضيف فوكوياما ـ أن نتابع وجود تشكيلة بالغة التوسع، شديدة التباين والتنوع من الوكالات، والهيئات والمؤسسات والمكاتب المسؤولة عن أجندة الديمقراطية في الشرق الأوسط ومن ضمن المؤسسات التي يحصيها كتابنا (ص 150) ما يلي:
* مكتب الديمقراطية وأساليب الحكم (الحوكمة كما أصبحت تسمى) التابع إلى وكالة الأمم المتحدة للتنمية ومكاتبها الإقليمية المنتشرة في أنحاء المنطقة وهي أكبر جهة لصرف الدولارات الأميركية في هذا المضمار.
* الوقفية (المنحة) الوطنية للديمقراطية .
* المعهد الوطني الديمقراطي.
* المعهد الجمهوري الدولي.
* مبادرة الشراكة في الشرق الأوسط.
* مكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان وشؤون العمل التابع لوزارة الخارجية.
* هيئات الدبلوماسية العامة التي تتوزع بينها اختصاصات هذا المجال، ما بين وكالة وزارة الخارجية المسؤولة عن شؤون الإعلام، ومجلس محافظي هيئة الإذاعة الذي تعمل تحت إشرافه تشكيلات من الهيئات والمؤسسات بما في ذلك إذاعات صوت أميركا وراديو سوا وراديو أوروبا الحرة وراديو ليبرتي وتليفزيون الحرة وراديو فارضا وما إلى ذلك.
ويعلق قائلاً: بين هذه الأنشطة المختلفة لا يوجد تنسيق شامل، وهذا يعني أن كثيرا منها يكرر بعضه بعضا ويبذل جهودا مزدوجة وغالبا ما تتعارض الأغراض وتتصادم النتائج.
بيد أن مشكلة القوى الناعمة لا تكمن فقط في غياب التنسيق. المؤلف يتهم وكالة التنمية الأميركية مثلا بأنها فشلت في أن تبث روح الإجادة المهنية أولا الاعتزاز بالحرفة والاختصاص لدرجة أن جاء عقد السبعينات فتحولت بسهولة إلى هيئة تابعة لوزارة الخارجية، ونزلت دوائر الكونغرس بميزانيتها إلى قاع الحضيض تبعا لأهواء أعضائه من النواب والشيوخ، فكان أن ظلت طوال العقد الماضي تخسر كفاءات ومواهب من موظفيها وفقدت معهم قدرا كبيرا من قدراتها الفنية بالنسبة إلى الإشراف على ما كان يجري تنفيذه من خطط ومشاريع.
ثم تجلى هذا الفشل كله في محاولات إعادة إعمار العراق بعد انتهاء العمليات المسلحة (النظامية أو السافرة على الأقل) وهي محاولات لم تسفر عن نتائج ذات بال من قريب أو بعيد، الأمر الذي دعا دوائر الإدارة الحالية إلى الدعوة لإصلاح مؤسسات القوى الناعمة.
وهي أساسا قوى الدعوة والإعلام والاتصال النخبوي والجماهيري أيضا، وإن كان مؤلفنا - في معرض الانتقاد الذي يوجهه - يؤكد أن الأمر لا يحتاج إلى إصلاحات بقدر ما يقتضي عمليات جراحية سياسية واستراتيجية وتنفيذية وإعلامية على السواء.
ومع ذلك فإن فوكوياما يحدد شرطا نراه جوهريا في كل هذه الإصلاحات، أو فلنقل الجراحات الإصلاحية المرتقبة. وهذا الشرط يقضي ببساطة بأن يتم هذا كله في ضوء ما تتوخاه أميركا من هدف التواصل، لا مع نفسها ولا مع جمهورها الانتخابي الداخلي، بل مع جماهير العالم الخارجي بشكل عام.
وبحيث تشعر هذه الجماهير أن هذه القوى (المؤسسات الناعمة) تتوجه إليها وتحاول التواصل معها بحق وبغير منطق الاغتراب أو التهميش أو المصلحة المغرضة أو التزييف أو التزويق أو الغرور والاستعلاء.
وربما يكون من المحاور السلبية التي تجسد هذا الاستعلاء من جانب محافظي واشنطون الجدد حكاية الهيمنة التي وصفوها بأنها خيّرة أو رحيمة أو ما ترجمناه بعبارة السيطرة الرؤوم.
لا للهيمنة
بادئ ذي بدء علينا - من منظورنا العربي - أن نسجل أن الهيمنة، رغم أي تبرير أو تكييف، هي الهيمنة، وأن السيطرة من جانب دولة أو نظام أو جماعة أو حتى فكرة أو أطروحة أمر تأباه أعراف الاستقلال السياسي والسيادة الوطنية والموضوعية الفكرية الثقافية.ولهذا يسترعي اهتمامنا أن يذهب المؤلف أولا إلى رفض حكاية الهيمنة الخيّرة ثم يتحول إلى أهمية دور المنظمات الدولية في إطار النظام العالمي الراهن باعتبار أنها المنظمات التي تحترم بحكم التعريف سيادة الدول وترفض - ولو على أساس نظري بحت - سيطرة دولة على أخرى، حيث أن القانون الدولي الذي تعمل هذه المؤسسات العالمية على أساسه يكرّس المبدأ الشهير الذي يقول بمساواة الدول في السيادة.
في كل حال يقول فوكوياما في مستهل الفصل السادس: إن حرب العراق كشفت عن أوجه قصور في الهيمنة الخيّرة التي نادت بها الولايات المتحدة، وانها كشفت أيضا عن أوجه قصور المؤسسات الدولية القائمة ومنها الأمم المتحدة على وجه الخصوص ورغم أن هذه المنظمات كانت محل تفضيل من جانب الأوروبيين لتكون الإطار الأنسب لاتخاذ إجراءات دولية مشروعة.
ولكن لماذا الأمم المتحدة بالذات ؟ .
يجيب المؤلف قائلا (ص 155): لأنها لم تستطع لا أن تصدق على قرار أميركا بالذهاب إلى خوض الحرب، ولا أن توقف واشنطن عن قرارها خوض حرب العراق بمفردها.
مطلوب إعادة التفكير
هذه المحصلة هي التي تدفع المؤلف إلى أن يختار للفصل قبل الأخير من كتابه عنوانا تجسده عبارة «إعادة التفكير في مؤسسات النظام الدولي» وفي مجال الترافع في هذه القضية يسوق المؤلف أسبابا تدفع إلى إعادة التفكير أو إعادة النظر:أولها أن ظاهرة العولمة زادت من ضرورات الاعتماد المتبادل أو هو التكافل بين الدول التي تشكل عناصر تكوين النظام الدولي بكل أبعاده. وفي هذه التطورات ما أتاح للبلدان مزيدا من فعالية التواصل بقصد التأثير على مجريات الأمور الداخلية في البلدان الأخرى.
ثانيها أن الوزن - الثقل ـ الذي باتت أميركا تتمتع به بحكم الأمر الواقع (دي فاكتو في المصطلح القانوني اللاتيني) أدى - بتعبير المؤلف - إلى خلل جوهري في توازن القوى الفاعلة على الساحة الدولية لدرجة أصبحت أميركا معها قادرة على التأثير في أقطار شتى من العالم من دون أن تملك تلك الأقطار درجة التأثير نفسها على أميركا.
وقد تجلى هذا الخلل في التوازن مصحوبا - كما رأينا - بإمكانية التأثير - في قدرة الولايات المتحدة على تغيير نظام الحكم في بلد كالعراق على مبعدة 8 آلاف ميل من حدودها. ومع ذلك فما برحت قطاعات واسعة بل وغفيرة من البشر تشكك في خطط أميركا ولا تثق فيما تعلنه من نوايا خيرة ومن ثم فما زال الأمر بحاجة إلى عنصر مؤسسي يقوم بدور التحكيم في مباراة السياسة الدولية شريطة أن يكون الدور فعالا وعنصر التحكيم موثوقا ونزيها وبالغ التأثير.
ويرى المؤلف أن الأمم المتحدة - بشكلها وتكوينها الراهن - لا تستطيع الاضطلاع بهذا الدور. ومن ثم يدعو في الفصل السادس (ص 157) إلى استحداث مؤسسات دولية جديدة، وإلى تعديل وتكييف منظومة المؤسسات القائمة كي تتلاءم مع الظروف المستجدة على المسرح الدولي.
في هذا الإطار يؤكد المؤلف على ضرورة أن يتجسد هذا الإصلاح - التعديل - التكييف في تغيير المفهوم الجوهري الذي قامت على أساسه المنظومة الدولية الراهنة. لقد أدت أدوارا بالغة الإيجابية وخاصة في مجالات حفظ السلام والتعمير والمعونات الإنسانية وما إليها، لكن مشكلتها الهيكلية أو الخلقية .
كما قد نسميها أن عضويتها قامت على أساس مفهوم السيادة الشكلية أو الرسمية (دولة مستقلة تنضم إلى المنظمة الدولية) من دون أن تقوم على أساس طرح وتحديد وتبني وتفعيل موضوعي لفكرة العدالة. ولهذا فالمنظمة لا تطرح مطالب عملية على أعضائها لكي يكونوا ديمقراطيين أو لكي يحترموا حقوق الإنسان الخاصة بمواطنيهم.
لقد قامت المنظومة الدولية (في منتصف الأربعينات) في معرض الاستجابة أو التكيف مع، أو التسليم بحقائق السياسة والأوضاع العالمية التي كانت سائدة في ذلك الحين، ومن ثم فقد حملت في أحشائها منذ نشأتها جنين مشكلاتها، مما أصاب أنشطتها بالتشوّه لأنها منذ قيامها ظلت تتألف من دول سلطوية وغاشمة وغير ديمقراطية.
بيد أننا في هذا السياق لا بد وأن نعترض على ما يذهب إليه مؤلف كتابنا في معرض انتقاداته العديدة التي يوجهها إلى الأمم المتحدة وإذا كان من حق البروفيسور فوكوياما، كأستاذ متمرس في علم السياسة أن ينتقد عدم فعالية المنظمة الدولية في هذا المجال أو ذاك، فلا نظن أن من حقه أن ينتقد الجمعية العامة للأمم المتحدة بدعوى أنها كانت ضد إسرائيل على طول الخط أو أنها تحابي العرب على طول الخط.
هنا لا يليق بأستاذ العلوم السياسية أن يساوي وفق المنطق الصوري - الشكلي ـ بين الطرف القائم بالاحتلال والطرف الخاضع للاحتلال.. بين الجاني الذي ما برح يغتصب حق تقرير المصير وبين الضحية المطالب بالحق المشروع في تقرير المصير. ومن عجب أن فوكوياما الذي طرح طيلة صفحات الكتاب مرافعة انتقادية ضد سياسات الولايات المتحدة، يجد نفسه ويا للتناقض - محاميا للدفاع عن الولايات المتحدة ومبّررا لسياستها حين يقول (ص 160):
إن أميركا وجدت نفسها (بمعنى كانت مضطرة) عبر السنوات مدفوعة إلى استخدام حق النقض (الفيتو) بصورة متواترة أو متكررة لرفض قرارات مجلس الأمن التي اعتبرت متحيزة ضد إسرائيل وبهذا اعتادت على أن تقف ضد أغلبية الآراء في المنظمة.
لكننا من جانب الإنصاف نسجل للمؤلف عودته إلى نقد إدارة الرئيس بوش الحالية حين يقول (ص 177): لقد أساءت هذه الإدارة إلى دعواتها التي أطلقتها من أجل تحولات ديمقراطية في العالم.. وذلك عندما شنت حملتها على العراق، وعندما بدت وكأنها لا تلقى بالا ولا تعنيها محنة أو معاناة الفلسطينيين.
ورغم أن كثيرين في الشرق الأوسط يتوقون بلهفة إلى تحقيق الديمقراطية في بلادهم إلا أن المنطقة ما برحت تشهد ـ كما يستطرد مؤلف الكتاب ـ نزعات معادية لأميركا لدرجة أن دعاة هذه الديمقراطية يجدون أنفسهم مضطرين أحيانا إلى إعلان تباعدهم عن الولايات المتحدة وبالتالي عن مؤازرتها للهدف الذي يدعون إلى تحقيقه.
الأمم المتحدة ومشكلاتها
وإذا كان العالم يقبل بتدخلات من جانب الأمم المتحدة، وإذا كان هناك من يقول إن المنظمة الدولية قد بلغت حدا من التشتت والتعدد في المهام وفي الواجبات الملقاة على عاتقها في الحرب وفي السلام، ولدرجة بات من الصعب عليها أن تواصل دورها المرسوم أو المنشود أصلا، وهو أقرب إلى اختصاص التحكيم أو التوجيه أو الفصل الحاسم في الأمور، أو فلنقل دور أمين المظالم.في ضوء هذا كله، وفضلا عن تكريس سيادة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ـ فإن مفكرا سياسيا مثل مؤلف كتابنا يحاول أن يستشرف في هذا الفصل السادس من كتابه آفاقا يراها واعدة أو مستجدة أو على الأقل يدعو إلى استشرافها أو ارتيادها.
في هذا السياق يطرح فوكوياما السؤال: إذا استعصى إصلاح الأمم المتحدة تماما فما الذي يمكن أن نفعله ؟ .
ويجيب في السياق نفسه قائلا: الجواب لن يتمثل على الأرجح في منظمة دولية مختلفة (أو بديلة) بل يتمثل بالأحرى في مجموعة متعددة الأطراف بمعنى تشكيلة من المنظمات الدولية التي يمكن أن تهيئ في آن معا أسباب القوة مع معايير الشرعية في غمار تصديها لمختلف أنواع التحديات التي تواجه النظام العالمي الراهن.
إن وضع كل ما نملك من بيض في سلة مؤسسة عالمية واحدة ما هو إلا وصفة للطغيان في حالة ما إذا استكملت هذه المؤسسة أسباب القوة والنفوذ، أو هو وصفة للقصور وعدم الفعالية وهذا ما تشهد به أنشطة المنظمة الدولية في الوقت الراهن.
ثم يواصل المؤلف طرح أفكاره قائلا: لقد بلغ العالم حالة من التشابك والتعقيد والتنوع لدرجة أصبح من المتعذر معها على منظمة أو مؤسسة واحدة أن تعالج أمور العالم وأن تشرف على ما يجري على صعيده من تطورات.
وقصارى الأمر ـ ومهما اختلفت الشعارات أو تعددت أو تبدلت المسميات - فإن مؤلف الكتاب يرى أن آليات النظام الدولي لن يتاح لها كفاءة الأداء إلا في ظل منظومة مؤسسية دولية تقوم بإنشائها الدول المستقلة ذات السيادة، أي نعم، ولكن على هذه الدول نفسها أن تتنازل عن جوانب من سيادتها، وفق قواعد تفويض السلطة والتنازل الطوعي عن السيادة لصالح السلطات التي تضفي على تلك المنظومة المؤسسة الدولية التي يفكر فيها ـ أو بالأدق يحلم بها فوكوياما ـ على أن يتم ذلك بالطبع من خلال اتفاقات قانونية رسمية وواضحة ومعترف بها.
في السياق نفسه، نلاحظ أن المؤلف لا يفصل بين التغيير الذي ينشده في هيكل وتوجهات المنظومة الدولية وبين استمرار دعوته إلى تغييرات جذرية في هيكل السياسة الخارجية لبلاده.. وهي سمات وأهداف يبلورها ـ في نقده لمؤلفنا ـ الكاتب الإنجليزي مارتن جاك (الغارديان البريطانية، عدد 13/4) حين يقول:
إنها سياسة لا بد وأن تقوم على أساس مبدأ تعددية الأقطاب وليس انفرادية القطب الواحد، وعليها أن تتبع مسارات وتوجهات واسعة النطاق تشمل المجالات الاقتصادية والدبلوماسية والعمل السياسي دون أن تعوّل باستمرار على استخدام القوة العسكرية الجبارة..
وبمعنى أن تستخدم القوى الناعمة بدلا من القوى الخشنة أو الغليظة. وعلى هذه السياسة الأميركية المنشودة أن تعترف أيضا ـ في رأي الكاتب الإنجليزي ـ بأن لكل بلد أو لكل منطقة أو لكل مجموعة من الأقطار جذوره أو جذورها الثقافية المختلفة العريقة والأصيلة والمتميزة عن سواها من القيم أو الأنساق أو الجذور.
وعلى ذلك فحكاية (أو بضاعة) الديمقراطية التي يروّج لها فصيل المحافظين الجدد في واشنطن لا يمكن فرضها من الخارج بحال من الأحوال، وقصارى القول إنه لا بد من التأمل بجدية في مقترحات البروفيسور فوكوياما بأن تعمد واشنطن إلى دعم ومساندة تشكيلة واسعة من المنظمات المتداخلة والمتعددة الأطراف لكي تحل محل الأمم المتحدة.
وعند هذا المنعطف من التحليل نقف أيضا من منظورنا العربي ورؤيتنا للأوضاع الدولية مؤيدين للكاتب مارتن جاك عندما يتحفظ ـ إلى درجة الرفض ـ على ما يدعو إليه فوكوياما من إحلال مؤسسة مستحدثة لا يعلم بها إلا الله محل منظمة الأمم المتحدة: إن الكاتب الإنجليزي يرى أن فوكوياما لا يكاد يختلف في هذه الدعوة مع من ينتقدهم من أجنحة المحافظين الجدد الذين يضمرون العداء لدرجة العمى ـ كما قد نقول ـ للمنظومة الدولية بكل ما تضمه من مؤسسات وبرامج وصناديق ووكالات وهيئات.
ولكن ، لماذا يكره معظم المحافظين الجدد الأمم المتحدة ؟ .
يجيب الكاتب الإنجليزي قائلا: لأن المنظمة الدولية رغم كل ما يشوبها من قصور وبكل ما تفتقر إليه من أدوات الحسم فإنها تتمتع بميزة واحدة وعظيمة أيضا وهي انها ساحة يمكن أن تسمع من فوق منبرها صوت جميع دول العالم.. وهي بهذه الصفة، أقل انصياعا وأشد استعصاء على الاستجابة للضغوط الأميركية و.... هكذا تحدث واحد من منتقدي الكتاب الذي بين أيدينا.
ويزيد عليه كاتب آخر ـ أميركي هذه المرة هو لويس مينان (مجلة النيويوركر، 27/3) حين يلاحظ أنه رغم توجيه الخطاب في كتاب فوكوياما إلى المشتغلين بالسياسة من مثقفين ومحللين ومستشارين ومعلقين .
وأيضا إلى مفكري مؤسسات هندسة القرارات أو رسم معالمها ـ إلا أن مؤلف الكتاب لا يمكن أن يعد مفكرا سياسيا بمعنى أن يصدر عن انتماء متبلور أو عن مذهب سياسي يترجم إلى انتماء حزبي أو حتى عقائدي أو نظري، فهو أقرب إلى العقلية الابتكارية المستقلة، يأخذ الأفكار بجدية شديدة محاولا أن يطل عليها، وعلى الأحداث التفصيلية، من خلال الصورة الأوسع وفي الإطار الأشمل.
وعندنا أن المؤلف لا يدعي أكثر من ذلك، وحسبه أنه تعامل مع الأوضاع السياسية، في بلاده، ومن ثم نصب نفسه متأملا وناقدا إضافة إلى تسجيل ما تراءى له من تصورات ومقترحات.
ولما كانت مادة هذا الكتاب ـ كما ألمحنا منذ البداية ـ عبارة عن محاضرات ألقاها صاحبه على طلاب الدراسات العليا في مساقات علم السياسة والعلاقات الدولية، فقد كان من الطبيعي والمنطقي أن يؤول العرض والتحليل إلى خلاصة تفصيلية عمد المؤلف إلى تسجيلها في الفصل السابع والأخير من هذا الكتاب، وهي عن المعالم الجديدة في السياسة الخارجية الأميركية.
أميركا عند مفترق طرق ـ الحلقة (الأخيرة)
إزالة العسكرة من السياسة الأميركية ضرورة حتمية
لا يتردد بروفيسور فرانسيس فوكوياما، في ختام كتابه، في الدعوة إلى تبني واشنطن سياسة خارجية مختلفة عما تتبعه الآن، وهو ما يرى أنه لن يتحقق إلا على يد فريق جديد يكفل انتقال الملفات الأكثر أهمية إلى أيدي الساسة الواقعيين.
وهو يبادر إلى التشديد على أن الواقعية التي يدعو إليها هي الواقعية الويلسونية، أي التي تقوم على التعامل مع الظواهر والعلاقات السياسية على أساس معطيات الواقع المعاش، بما في ذلك انفتاح أميركا على عالمها وتعاملها مع أوضاع عصرها، في ضوء مبادئ الرئيس ويدرو ويلسون.
في العشرين من مايو الماضي طالع القراء إعلاناً على صفحة كاملة نشرته كبريات الجرائد الأميركية، وبالطبع انطوى على تكاليف باهظة. وبينما تصدرت الإعلان المنشور صورة دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي، فقد صدر الإعلان عن مجموعة من أركان مجتمع الولايات المتحدة والمهتمين فيها بالشأن القومي العام. وقد رفعت هذه المجموعة، على سبيل التعريف بهويتها وتحديد أهدافها الشعار التالي:
قادة قطاع التجارة والأعمال العاملون من أجل رسم أولويات راشدة أو معقولة. كما ضم الإعلان عشرات التوقيعات جاء في مقدمتها توقيع عشرة من رؤساء مجلس إدارات أكبر مؤسسات وشركات في مجال البزنس.
ولأنهم من أهل المال والأعمال فقد كان طبيعيا أن يتوخوا أكبر الحرص على تجنب الأحكام المعممة أو الطروحات المطلقة، دع عنك التشهير بألفاظ أو أوصاف خارجة عن نطاق الذوق العام، لقد حفل إعلانهم بما تراءى لهم من أرقام وحقائق تصب كلها في العنوان الرئيسي الذي صدروا به رسالتهم إلى الرأي العام في بلادهم.
وقالوا في نص هذه الرسالة: عشرة من رؤساء مجالس الإدارة يدعون إلى إنهاء خدمة رئيس مجلس إدارة (البنتاغون) المذكور أعلاه ورغم أن رسالة العشرة الكبار وزملاءهم في المهنة والرأي تحوي ست نقاط أو هي ستة مآخذ رئيسية رصدوها في سجل وزير دفاعهم، فإن الذي يعنينا من حيث الصلة مع هذه الحلقة الأخيرة من الكتاب هو رؤية هؤلاء القادة لمسير ومصير حرب أميركا في العراق، وقد تطرقوا إلى ذلك في النقطة أو السلبية الثانية من دعوتهم المنشورة على الملأ واختاروا لها العنوان التالي: التنبؤ القاصر دليل على خيبة التخطيط وانعدام كفاءته.
وعلى سبيل التفصيل يقولون: لقد تنبأ رامسفيلد بأن عملية «حرية العراق» (كما أسماها مخططو إدارة بوش) سوف تتكلف، بنص كلماته، أقل من 50 مليار دولار وقد تستغرق «6 أيام و.. ربما 6 أسابيع.. وأشك في أن تطول إلى 6 أشهر» وها قد انقضت ثلاث سنوات وارتفعت المصاريف المتكبدة إلى 439 مليار دولار في حين يتنبأ خبير اقتصادي مرموق وحاصل على جائزة نوبل بأن التكلفة النهائية لعملية «حرية العراق» سوف تزيد على تريليون دولار (ألف مليار ـ 12 صفرا إلى اليمين).
الأكاديمي محذّرا
إذا كان من عادة رجال الأعمال وقادة الاقتصاد - فما بالك أن يكونوا من أهل جائزة نوبل - أن يطرحوا أفكاراً محددة وبالأرقام سواء كانت ناتجة عن حسابات أو إسقاطات رياضية، فإن دأب رجال الأكاديميا، ومنهم مؤلف كتابنا البروفيسور فوكوياما، أن يطرحوا أفكارهم وقد أحاطوها عمدا بقدر من التحوط واللا يقين، وهكذا يعمد المؤلف في الفصل السابع والأخير من كتابه وهو الفصل المتعلق بالدعوة إلى سياسة خارجية مختلفة ـ إلى افتتاح هذا الفصل أو هذه الدعوة بسطور يقول فيها:يبدو من المشكوك فيه أن التاريخ في هذه المرحلة سوف يصدر حكما متعاطفا أو متفهما على وقائع حرب العراق. إن إدارة بوش حين اجتاحت العراق أوجدت أوضاعا مستجدة عليها أن تتعامل معها فكان أن حل العراق محل أفغانستان بوصفه قطبا للجذب وساحة للتدريب وقاعدة للعمليات لصالح الإرهابيين المتطرفين وقد أتيحت لهم كثرة كاثرة من الأهداف الأميركية التي يصطدمون بها.
ويضيف المؤلف قائلا: لقد كان ثمة رابطة مبهمة، صلة متهافتة أو غامضة بين «أبو مصعب الزرقاوي» الأردني وبين حزب البعث الحاكم سابقا في العراق، ولكن جاء الاحتلال الأميركي ليفضي إلى شعور بالسخط والحنق والرفض لتصل الرابطة إلى نوع من التحالف الكامل، ومن ثم فمن شأن حكومة جديدة في العراق أن تعاني من الضعف البالغ لسنوات مقبلة وأن تظل في حال من الاعتماد الشديد على الدعم العسكري الأميركي.
أخطاء رامسفيلد
في السياق نفسه (ص181) يكاد مؤلفنا فوكوياما يتفق مع ناقدي وزير الدفاع الأميركي، سواء كانوا من أركان البزنس على نحو ما أسلفنا أو كانوا من الجنرالات المتقاعدين في سلك العسكرية الأميركية على نحو ما شهدته وقائع الأسابيع الماضية يقول المؤلف:وزير الدفاع رامسفيلد، الذي أراد أن يذهب إلى العراق بقوات خفيفة وبعدها يغادر العراق بسرعة، أدت به إستراتيجيته هذه إلى إيقاع العسكرية الأميركية في ورطة تواجه فيها حرب عصابات لأجل طويل. كما أن القوة العسكرية المؤلفة من متطوعين وقد تم إنشاؤها عشية انتهاء حرب فيتنام لم يقصد بها قطعا أن تخوض حروبا طويلة الأمد من هذا النوع ومن ثم سوف تواجه صعوبات مع مرور الزمن من حيث استمرار تجنيد المتطوعين والحفاظ على معنوياتهم.
بعدها يعرض المؤلف إلى خسائر الأرواح الجسيمة في صفوف الأميركيين وخسائر الأرواح الأكبر فداحة وجسامة في صفوف المواطنين العراقيين، ثم يعود إلى نظرته الإستراتيجية كأستاذ في علم السياسة وعلاقات الدول ليسجل أن انشغال واشنطن بالشأن العراقي أدى إلى الحد من خياراتها (بمعنى قدراتها على التصرف أو التعامل) في الأجزاء الأخرى من العالم.
وإلى انصراف أو بالأدق تشتيت اهتمام كبار راسمي السياسات في أميركا عن الالتفات المطلوب إلى مناطق أخرى ومنها آسيا على سبيل المثال التي يرجح ـ في رأي فوكوياما (والإشارة هنا إلى الصين كما نتصور) ـ أن تشكل تحديات إستراتيجية أشد خطرا أمام أميركا في الأجل الطويل.
ما دلالة هذا كله ؟ .
يجيب المؤلف عن هذا السؤال قائلا: يبدو أن إدارة بوش (في الولاية الثانية) قد أدركت، أو سلمت بأنها دفعت ثمنا سياسيا شديد الفداحة لقاء حرب العراق ومن ثم فإن الحرب الوقائية (وطبعا شقيقاتها من استباقية أو إجهاضية.. الخ) لا يمكن أن تظل هي المحور الذي تدور عليه الإستراتيجية الأميركية.
هنا يلتمس المؤلف ما يمكن أن نسميه سبلا سياسية وعملية معقولة للخروج من هذه الدائرة المغلقة أو شبه المغلقة فهو يسجل لوزيرة الخارجية الحالية، كوندوليزا رايس أنها تتمتع بسلطة أكثر وتعمل على مسافة أقرب من رئاسة الدولة مقارنة مع سلفها في حقيبة الخارجية، الجنرال كولن باول.. لكن المؤلف يرى من جانب آخر أن قدرة الإدارة الحالية على حل أو معالجة المشكلات التي أوجدتها لنفسها في سنواتها الأولى سوف تظل قدرة محدودة.. ثم يحذر مستطردا:
وفي كل حال، فإن إصلاح ما فسد أو تعويض ما ضاع من مصداقية أميركا (في العالم) لن يتم بتحسين أساليب العلاقات العامة (الدعاية أو الإعلام.. الراديو أو التلفاز أو تصريحات كبار المسؤولين أو لقطاتهم المتفائلة أمام العدسات). إن الإصلاح في رأي فوكوياما (ص 183) أمر يقتضي فريقا جديدا وسياسات جديدة.
لهذا يطرح كاتبنا رؤيته بقدر أوسع من التفصيل:
ـ يوضح أن الفشل في العراق سيكون معناه تجريد أجندة المحافظين الجدد بأكملها من أي مصداقية أو قدرة على النجاح.
ـ هذا معناه أيضا أن تعود مسؤولية أجندة ملف السياسة الخارجية الأميركية إلى أيدي الساسة الواقعيين.
ـ لكن إتباع الواقعية هنا لا يجوز أن يصل إلى حد المناداة بالعزلة.. وإلاّ يصدق عليه المثل السائر (عربيا على الأقل) بين تعصب المحافظين وانكفاء الانعزاليين يا قلب لا تحزن!.
ـ الواقعية التي يدعو إليها كتابنا هي ما يصفه المؤلف بأنها «الواقعة الويلسونية» بمعنى الجمع بين التعامل مع الظواهر والأوضاع ومع العلاقات السياسية سواء كانت صداقة أو خصومة على أساس معطيات الواقع المُعاش .
ولكن أيضا من منظور ضرورات انفتاح أميركا على عالمها وتعاطيها مع أوضاع عصرها، شريطة أن يستلهم هذا الانفتاح وهذا التعاطي روح المبادئ التي سبق إلى تكريسها الرئيس ويدرو ويلسون وفي مقدمتها المناداة بحق الشعوب في تقرير المصير ورفض دعاوى انفراد قطب واحد بمقادير عالمنا.. وإسناد القضايا العالمية إلى محفل دولي مشترك بين الأمم يسهر على حفظ السلام ويعزز إمكانات التعاون من أجل التنمية على صعيد خارطة الكوكب بأسره.
مطلوب فك العسكرة
وقبل أن نقع في غرام الشعارات، نعود إلى استفتاء الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب لنضفي مع المؤلف معنى ومضمونا على ما سقناه من أفكار.على سبيل الإيضاح يقول فوكوياما: إن هذا معناه أساسا إزالة الطابع العسكري عن السياسة الخارجية الأميركية، وإعادة التشديد على الأدوات الأخرى المتبعة للعمل السياسي. صحيح أنه لا سبيل إلى الاستبعاد التام لأدوات من قبيل تغيير النظم الحاكمة أو ممارسة التدخل العسكري.
ولكن بشرط أن تعد هذه الأساليب بمثابة أدوات متطرفة بمعنى عدم اللجوء إليها سوى في الحالات القصوى وليس ينبغي مثلا ـ يضيف المؤلف ـ أن يقول هذا المسؤول (في البيت الأبيض أو في البنتاغون أو في الخارجية): لقد ضقنا ذرعا ونفد صبرنا ولا نستطيع من بعد الانتظار، وذلك عند التعامل مع ما يوصف بأنه الدولة المارقة.
في هذا كله يدعو المؤلف إلى مراجعة شاملة بهدف إدخال تغييرات جذرية على «إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة» المعروفة باسمها المختصر «إن. إس. إس» بما يكفل طرح تعريفات واضحة ومحددة لما يمكن اعتباره ضرورة لحرب وقائية أو لضربة استباقية ردا على خطر داهم حقيقي ووشيك يهدد أمن الولايات المتحدة.
ومن هنا أيضا يدعو المؤلف إلى وقف الشعارات والدعايات والأقاويل التي تتحدث عما يطلقون عليه اسم الحرب العالمية الرابعة، أو الحرب على الإرهاب (الشعار المفضل لإدارة بوش) صحيح ـ يضيف فوكوياما (ص 184) اننا (الأميركان) نخوض حربا ضد عناصر مدججة بالسلاح في كل من أفغانستان والعراق.
وإننا نتصدى لحركة أعلنت «الجهاد» على أميركا (أسامة بن لادن) لكن علينا أن نتعامل مع كل هذه الظواهر في إطار حجمها الصحيح ولا نوسع هذا الإطار، فما بالك بأسلوب الغلو والمبالغة في توسيعه وهو ما يعني المساس (بمعنى الإساءة) لجموع الناس في العالمين العربي والإسلامي.
الحل تعزيز التنمية
إذا كان هذا حديث الحرب والأسلوب العسكري فماذا عن نواحي السلام وسائر أساليب التعامل مع العالم ؟ .يقول المؤلف: على أميركا أن تبادر أيضا إلى تعزيز سبل التنمية السياسية والاقتصادية وأن تبدى اهتمامها أو اكتراثها بما يحدث في داخل الدول حول العالم على أن يتم ذلك من خلال تركيزنا أساسا على الدعوة إلى الأخذ بأساليب الحكم الرشيد وإلى تحميل أهل السياسة المسؤولية أمام شعوبهم عما يفعلون (المساءلة السياسية) ونشر الديمقراطية وإقامة مؤسسات قوية داخل تلك المجتمعات..
لكن شريطة أن يتم هذا كله من خلال استخدام أساليب القوى الناعمة مجسدة في قدرة أميركا على أن تكون القدوة والنموذج وأن تمد يدها لمزيد من التدريب والتعليم والتثقيف وأن تسدي المشورة للدول والشعوب التي تحتاج إليها وأن لا تبخل بتقديم العون المالي لدعم كل هذه الجهود.
ومرة أخرى يحذر فوكوياما من محاولات التصدير الغرّ أو المغرور لكل هذه الأفكار من الخارج إلى داخل تلك المجتمعات إن الحكم الرشيد في رأيه أو التحول الديمقراطي أو تفعيل مؤسسات المجتمع المدني ومساءلة أهل الحل والعقد أمام شعوبهم ومواطنيهم ـ كل هذا لا بد وأن تنبع الدعوة إليه من صميم هذه الشعوب ومن داخل تلك المجتمعات.
يقول المؤلف في معرض الإيضاح :
ينطوي الأمر في صفوف المجتمع على عناصر تكون أحيانا من النخب (المتعلمة أو المثقفة) وأحيانا تكون من صفوف المجتمع المدني الأوسع نطاقا ولكن هذه العناصر تندب نفسها لتكون مسؤولة عن المطالبة بالإصلاح وإقامة المؤسسات والسهر على تحقيق النتائج التي تعود بالخير على شعوبها على أن يظل المنطلق الأساسي هو أن التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط أمر مرغوب به في حد ذاته وليس لأنه يمكن أن يحل مشاكلنا (الأميركان) مع خطر الإرهاب.
مراجع فرنسية
في هذه النقطة بالذات يشير المؤلف إلى تحليل له سماته الفريدة وفد نشر الباحث الفرنسي أوليفييه روي في كتابه بعنوان: «عولمة الإسلام: البحث عن أمة إسلامية جديدة» (منشورات جامعة كولومبيا، عام 2004) ـ ويذهب فيه المعلق السياسي الفرنسي إلى أن الجزء الأكبر من مشكلة الحرب ضد ظاهرة الإرهاب سوف يكمن على أرض أوروبا نفسها.وليس في منطقة الشرق الأوسط، وأن ظاهرة الإرهاب هي بالدرجة الأولى نتاج فرعي ناجم عن أوضاع الهجرة والعولمة وما في حكمها من خصائص بات يتسم بها جزء من عالمنا وهو يتحول إلى الانفتاح والديمقراطية.
ثم يبادر المؤلف محذرا من أن المسيرة ستكون من أصعب ما يكون، ولاسيما بالنسبة لأميركا التي تغيرت صورتها في الشرق الأوسط وبفعل أخطاء وسلبيات كثيرة وفي هذا الصدد يقول أن أميركا لم تعد لها مصداقية تذكر ولا سلطة معنوية بمعنى النفوذ الأدبي في المنطقة (ص 187).
ثم يستطرد قائلاً: إن الصورة السائدة في المنطقة عن الولايات المتحدة لم تعد هي صورة تمثال الحرية بل هي صورة تعذيب المساجين في أبوغريب، وقد بلغ الأمر الحد الذي جعل عناصر الليبراليين من دعاة الإصلاح الموالين للغرب يشعرون أن من واجبهم أن ينأوا بأنفسهم عن أميركا وإذا كان الأمل يحدو المؤلف في ألا يستمر هذا الوضع طويلا.
إلا أن هذا الوضع في حد ذاته هو الذي يدفع المؤلف إلى تأكيد أهمية التغيير الذي ألمحنا إليه في مضمار السياسة الخارجية لواشنطن وإن كان يحذر من أن يأتي هذا التغيير مباغتا فإذا بأضراره تفوق ثماره المرتجاة ـ الأمر الذي يدفع فوكوياما إلى مطالبة واشنطن بأن تلجأ إلى أدوات غير مباشرة وغير مفاجئة تتيح لها تغيير سياستها على نحو وئيد ومتدرج ورشيد.
ومن هذه الأدوات ـ ولنقرأ العبارات جيدا ـ مؤسسات من قبيل جهود «جماعة الديمقراطيات» وهي المجموعة ـ المؤسسة التي تشكلت في وارسو عاصمة بولندا عام 2000 بدعم من إدارة الرئيس الأسبق كلينتون لتضم كثيرا من دول شرقي أوروبا (السوفييتية ـ الشيوعية سابقا) وبعض دول أميركا اللاتينية وشرقي آسيا التي شهدت تحولات ديمقراطية منذ عقد السبعينات.
مرة أخرى، وقرب ختام السطور من هذا الكتاب يحيل المؤلف إلى مفكر فرنسي آخر وتلك ظاهرة أو لازمة لاحظناها خلال تحليلنا النقدي الراهن لهذا الكتاب، ربما لأن البروفيسور فوكوياما أكاديمي واسع الاطلاع على ما يصدر من أدبيات على نطاق عالمنا بخلاف تلك الصادرة بالإنجليزية.
وربما من باب الإعجاب بالقدرات التحليلية المعهودة عن مفكري وفلاسفة الفرنسيين.. وربما لأن المحلل الفرنسي مؤهل لكي يتناول الظاهرة الأميركية من بعيد وليس من داخل تلافيف الظاهرة، وهذا يتيح له بداهة ـ أن يرصد أبعادها بغير تأثير مباشر وأن يرى الصورة بكل ما تتسم به من تلك الأبعاد.
والإحالة التي يختتم بها كتابنا هي إلى الكاتب السياسي الفرنسي بيير هاسنر الذي يصفه مؤلفنا بأنه كان بالمصادفة واحدا من تلاميذ ليوشتراوس الذي يعده المحافظون الجدد أستاذهم ورأس المدرسة الفكرية ـ المذهبية التي ينتمون إليها. ان المسيو هاسنر يلاحظ فرقا جوهريا بين سلوك الأميركيين في داخل بلادهم وسلوكهم خارج حدودها:
إنهم في الداخل يعتمدون قاعدة «تبادل الضوابط من أجل تحقيق التوازنات» بين مؤسسات الدولة ـ الأميركية لأنهم يرفضون مبدأ تركز القوة أو السلطة في يد هذه المؤسسة أو تلك مهما جاءت المؤسسة أو السلطة بالانتخاب أو انطلقت من موقع حسن النوايا.
بيد أن الأميركان في السياسة الخارجية ـ وخاصة في ظل ظاهرة القطب الواحد بعد انتهاء الحرب الباردة ـ باتوا يروّجون لفكرة هيمنة الولايات المتحدة لكي تتصرف بغير قيود أو ضوابط أو توازنات..وتحت شعار موجه لشعوب العالم بأسرها: من فضلك ضع ثقتك في أميركا ! .
من هنا يطرح الكاتب الفرنسي سؤاله الجوهري البليغ بقوله: إذا كانت السلطة المطلقة أو القوة المنفردة بغير ضوابط مدعاة للمفسدة على الصعيد الداخلي، فلماذا لا تكون بنفس القدر من السوء والإفساد من جانب من يقبض منفردا على مقاليدها على الصعيد الدولي ؟
التاريخ عند نهاية التاريخ
منذ خمسة عشر عاماً، ذكرت في كتابي "نهاية التاريخ والرجل الأخير" أن أي مجتمع إذا ما أراد أن يكون مجتمعاً معاصراً فلا بديل لاقتصاد السوق والنظام السياسي الديمقراطي. وبطبيعة الحال لم يكن الجميع راغبين في المعاصرة، ولم يكن بوسع الجميع إنشاء المؤسسات ووضع السياسات اللازمة للوصول بالديمقراطية والنظام الرأسمالي إلى النجاح، إلا أن أي نظام بديل لن يعود بنتائج أفضل.
وعلى الرغم من أن "نهاية التاريخ" كان في الأساس عبارة عن حوار بشأن المعاصرة والحداثة، إلا أن بعض الناس ربطوا بين فرضيتي بشأن نهاية التاريخ وبين السياسة الخارجية التي ينتهجها الرئيس جورج دبليو بوش والهيمنة الإستراتيجية الأميركية. إلا أن كل من يتصور أن أفكاري تشكل الأساس الفكري للسياسات التي تنتهجها إدارة بوش ، فهو لم ينتبه إلى ما ظللت أكرره منذ العام 1992 بشأن الديمقراطية والتنمية.
في مستهل الأمر، برر الرئيس بوش التدخل في العراق على أساس برامج صدّام لإنتاج أسلحة الدمار الشامل، والارتباطات المزعومة بين النظام العراقي وتنظيم القاعدة، علاوة على انتهاك العراق لحقوق الإنسان وافتقاره إلى الديمقراطية. ومع انهيار المبررين الأولين في أعقاب الغزو في العام 2003، زادت الإدارة الأميركية من تركيزها على أهمية الديمقراطية، في العراق وفي الشرق الأوسط الكبير، في محاولة لإيجاد الأساس المنطقي لوجودها في العراق.
زعم بوش أن الرغبة في الحرية والديمقراطية شعور عالمي وليس مقيداً بثقافة معينة، وأن أميركا لابد وأن تكون مكرسة لدعم الحركات الديمقراطية "سعياً إلى تحقيق الهدف النهائي الذي يتلخص في القضاء على الطغيان في عالمنا". ولقد رأى مؤيدو الحرب أفكارهم تتأكد في أصابع الناخبين العراقيين الملطخة بالحبر، والذين اصطفوا للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات العديدة التي عقدت في الفترة بين يناير/كانون الثاني وديسمبر/كانون الأول 2005، وفي ثورة الأرز في لبنان، وفي الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في أفغانستان.
على الرغم من الأمل الذي بثته مثل هذه الأحداث، إلا أن الطريق إلى الديمقراطية الليبرالية في الشرق الأوسط من المرجح أن يكون مخيباً للآمال في الأمد القريب إلى المتوسط، وهذا يعني بالتالي أن الجهود التي تبذلها إدارة بوش لبناء سياسة إقليمية على هذا الأساس تتجه نحو فشل ذريع.
مما لا شك فيه أن الرغبة في الحياة في مجتمع حديث والتحرر من الطغيان تنبع من شعور عالمي أو يكاد يكون عالمياً. ونستطيع أن نجد الدليل على هذا في الجهود التي يبذلها الملايين من البشر في كل عام سعياً إلى الانتقال من العالم النامي إلى العالم المتقدم، حيث يأملون أن يجدوا الاستقرار السياسي، وفرص العمل، والرعاية الصحية، والتعليم وكل ما يفتقرون إليه في أوطانهم.
لكن هذا ليس كأن نقول إن الرغبة عالمية في الحياة في ظل مجتمع ليبرالي ـ أو نظام سياسي يتسم بمحيط من الحقوق الفردية وحكم القانون. إن الرغبة في الحياة في ظل ديمقراطية ليبرالية هي في واقع الأمر شيئاً يكتسب مع الوقت، كنتاج ثانوي للمعاصرة الناجحة في كثير من الأحوال.
فضلاً عن ذلك فإن الرغبة في الحياة في ظل ديمقراطية ليبرالية حديثة لا تترجم بالضرورة إلى القدرة على تحقيق هذه الرغبة بالفعل. ويبدو أن إدارة بوش قد افترضت في تعاملها مع العراق بعد صدّام أن الديمقراطية واقتصاد السوق يشكلان الظروف المثالية التي ينبغي على المجتمعات أن تتحول إليها بمجرد التخلص من النظام القمعي المستبد، بدلاً من الشروع في بناء سلسلة من المؤسسات المعقدة المتشابكة التي لابد وأن تبنى بالعرق والجهد مع الوقت.
قبل أن يتمكن أي مجتمع من تطبيق الديمقراطية الليبرالية فلابد وأن يكون لديه أولاً دولة قائمة بوظائفها (وهو العنصر الذي لم تفتقر إليه ألمانيا أو اليابان بعد هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية). وهذا ليس بالعنصر الذي نستطيع أن نسلم بوجوده في بلدان مثل العراق.
إن كتاب "نهاية التاريخ" لم يرتبط قط بنموذج أميركي معين من التنظيم الاجتماعي أو السياسي. ومثل الفيلسوف الروسي الفرنسي ألكسندر كوجييف الذي ألهمني حجتي الأصلية في ذلك الكتاب، فأنا أعتقد أن الاتحاد الأوروبي يعكس بصورة أكثر دقة الهيئة التي سيكون عليها العالم مع نهاية التاريخ، مقارنة بالولايات المتحدة المعاصرة. إن محاولات الاتحاد الأوروبي الرامية إلى تجاوز سياسات السيادة والقوة التقليدية من خلال تأسيس حكم القانون على مستوى متخط للحدود القومية تتفق مع عالم "ما بعد التاريخ" أكثر مما يتفق معه اعتقاد الأميركيين المستمر في "الرب، والسيادة الوطنية، والآلة العسكرية".
وأخيراً، أنا لم أربط قط بين البروز العالمي للديمقراطية وبين الوكالة الأميركية، وبصورة خاصة لم أربط بين ذلك وبين ممارسة القوة العسكرية الأميركية. إن التحول إلى الديمقراطية لابد وأن يكون مدفوعاً بواسطة المجتمعات الراغبة في الديمقراطية، وبما أن الديمقراطية تحتاج إلى مؤسسات، فهي عادة عملية طويلة ومجهدة إلى حد كبير.
وربما تستطيع القوى الخارجية مثل الولايات المتحدة في المساعدة في هذه العملية من خلال القدوة التي تقدمها باعتبارها مجتمعات ناجحة على المستويين السياسي والاقتصادي. كما تستطيع هذه القوى توفير الدعم المالي، والنصيحة، والمعونة الفنية، وفي بعض الأحيان القوة العسكرية لمساعدة العملية في الاستمرار. إلا أن تغيير الأنظمة بالقهر والعنف لم يكن قط سبيلاً إلى التحول نحو الديمقراطية. " فوكوياما / الحقائق 5/4/2007