2‏/4‏/2017

التربية القرآنية العقلية والايمانية والنفسية

بسم الله الرحمن الرحيم
التربية القرآنية العقلية والايمانية والنفسية
1 - التربية العقلية
لا يمكننا الحديث عن أساليب التربية القرآنية قبل الحديث عن محاور  هذه التربية ومن ثم إثبات شمولية المنهج القرآني التربوي وإحاطته بجميع الجوانب التكوينية للإنسان.
والمنهج التربوي القرآني منهج فريد لا يوازيه منهج ومصدر تفرده أنه  راعى الحاجات الفطرية لدى الإنسان، ويهدف لبنائه، ويأخذ بيده ليحقق الهدف الأسمى الذي خلق من أجله، وهو الإقرار بوحدانية الله، والعمل بمقتضيات هذا الإقرار، والقيام بمهام الاستخلاف الذي وكل به ، وأداء الأمانة التي تحملها.  
فالتربية القرآنية راعت خصائص الإنسان من حيث كونه إنسان، فهي تنظر إليه بمنظار الواقعية فلا تطالبه بالمثالية التي لا يمكن تحقيقها ،إما إطلاقاً لأنها فوق إمكانيات البشر ،أو عموما حيث يستطيعها فئة محددة من الناس.
وهي في واقعيتها شاملة لكل الخصائص الإنسانية من نواحي العقلية والجسمية و النفسية ويمكناً إجماليا الاكتفاء بثلاثة محاور قد تكون هي الأهم من بين كثير من محاور تكوين الإنسان.
وقد تطرق لدراستها والاهتمام بها الكثير من المختصين ،مثل التربية الجسمانية ،والغذائية ،والانفعالية ،والعقلية ،والإيمانية، والنفسية ،وناخذ الثلاثة الأخيرة هي إن شاء الله وهي: التربية العقلية والتربية الإيمانية والتربية النفسية.
( أ ) - اهمية التربية العقلية بالقرآن
أهمية العقل : تكمن أهمية العقل في كونه الأداة التي يستطيع الفرد عن طريقها سلوك الطريق المرجو منه في قضيتي الإيمان و الأعمار للأرض.
ولا شك أن العقول تتفاوت بين الناس وهذا أمر مسلم به ،مع الانتباه إلى أن العقول قابلة للتطوير والارتقاء على حسب ما يتم تدريبها على ممارسة العمليات العقلية.
من تفكر وتدبر وتأمل ،لذلك نجد أن الكثير من الآيات القرآنية تختم بكلمة (..يتدبرون..) (..يعقلون..) (يتفكرون..).
وعقول الأفراد مجتمعة تكون عقل المجتمع أو الأمة ،لذلك كان الاهتمام بالقدرات العقلية ومحاولة تطويرها على النطاق الفردي أو الجماعي عمل في غاية الأهمية.
فلوا تأملنا على سبيل المثال ارتقاء الأمة الإسلامية لوجدنا أن سر التأخر في زماننا يكمن في إهمال التربية العقلية وتهمشيها ،واعتقاد أفرادها بعدم قدرتهم على التقدم والاختراع.
وهو مرض استشرى حتى أصبح قضية مسلم بها، نشأ عنها تبني قضية هي بعيدة كل البعد عن الإسلام وهي قضية الحرب المعلنة بين العلم والدين.
ولو يقصد بالدين غير دين الإسلام لأمكن ذلك ولكن لما اتهم الإسلام بذلك كان الأمر مجانب للصواب كله ،لأن الإسلام دين حث على العلم ودعا إليه ووصى به قال تعالى:
]قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ[[1] وقال تعالى : ] إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ[[2].
ودين الإسلام وضع العقل في ميزانه الصحيح بعيدا عمن عظم العقل وبجله وجعله إله مشرعا حاكما ، ومن خذل العقل وأماته بأمراض الخرافة والخيال.
فالقرآن الكريم نصب للعقل خيمة التفكير والتأمل والتدبر وأتاح له ممارسة المقارنة والموازنة بين الأشياء ،ومهد له الطريق بالإشارات الدلالية إلى الأسرار الكامنة حوله في الكون والمخلوقات وهو طريق يفتح له آفاق علمية وإبداعية تعينه على الوصول إلى الحق.
ولو أننا تأملنا منهج القرآن الكريم في التربية العقلية ثم حاولنا تطبيق هذا المنهج الرباني في حياتنا الواقعية والاستفادة منه في تربية لنشأ على المنهج القرآني الصحيح ،لاستطعنا بحول الله العودة بالناشئة المسلمة إلى جادة الحق.
( ب ) - اهمية العقل بالقرآن
قال تعالى : ] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ[[3].
وقال J (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبك وأعمالكم)[4].
كثر الجدل والكلام في التفريق بين العقل والقلب وأيهما هو المناط والمعول عليه في التكليف، فقيل أن العقل موجود في مركز القلب، وهو الذي يقوم بتوجيه الدماغ لأداء مهامه.
فالقلب هنا وحدة الفهم والإدراك والفقه والسيطرة ،واتخاذ القرار في الإنسان وهو مناط التكليف في الإنسان ،ومن ثم فإنه محل النظر والاعتبار من الله تعالى[5].
وقد قال النبي J في حديث النعمان ابن بشير قال: الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه.
ومن وقع في  الشبهات فقد وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
إلا وإن لكل ملك حمى الأ وإن حمى الله محارمه ،الأ وإن في الجسد مضغة إذ صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب[6].
وقيل العقل عقلان عقل في الرأس وعقل في الصدر. وقيل بل الذي في الصدر هو البصيرة وقوله تعالى: (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا َوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)[7] أي ليس العمى عمى البصر وإنما العمى عمى البصيرة.
وهذا الخلاف قديم، ولا يحتمل الإطالة ولكن يمكننا إيراد قول واحد للجمع بين مفهومي القلب والعقل في القرآن الكريم وهو أن معناه الكني عنده تعالى.
وأما ما جاء في معنى الآية فقد فسرت كما جاء في اللغة العربية بأنها مقدمة أعلى الشيء في الإنسان ،وهو الجزء الأمامي للمخ وهو المسئول عن اتخاذ القرار عند الإنسان[8].
( ج ) - اهمية القرآن بالعقل  
 ينظر القرآن الكريم للعقل البشري بالنظرة الواقعية، دون افراط أو تفريط .
فالقرآن الكريم يشير بوضوح إلى أن الله جل وعلى قد جعل للإنسان عقل وجبله على التفكر والتدبر والموازنة بين الخير والشر واختيار الطريق الصحيح والتأثر بما يمكن أن يصل إليه من نتائج.
كما أن القرآن الكريم قد قدر العقل واعتبره مناط المسئولية وركز على أهميته في بناء عقيدة المسلم وتصحيح مفهوم التوحيد والعبودية  والتفكر في آيات الله.
حث القرآن على استخدام العقل ودعاه للتأمل في ملكوت الكون وتدبر آيات الله للتعرف على قدرته المعجزة، وتدبر أحكام التشريع الإسلامي وحكمته للاقتناع.
واشتراط العقل في كثير من الأمور كالأمانة والقضاء ، وإقامة الحد والشهادة واعتبار العقل مناط المسئولية والتكليف. 
رتب القرآن الكريم العمليات التي يمارسها العقل الإنساني للتوصل إلى حقيقة الأشياء ودعاه إليها في مواضع كثيرة من الآيات القرآنية.
وهي عمليات  التفكير ، التدبر ، التذكر ، وهي عمليات تقود إلى تطوير العقل وبناء العقل المسلم المرتب المنظم الممنهج عمليا بطريقة صحيحة ، والقادر على بلوغ درجات النظر والتدبر والاجتهاد وبلوغ أعلى درجات الفكر الإنساني[9].
( د ) : منهاج القرآن وتربية العقل
سار القرآن الكريم على طريق واضح في تربية العقل، وبنى طريقه على خطوات عملية تكفل تحقيق المقصود من وجود العقل في الإنسان، واستطاع بمنهجه الواضح.
أن يضع العقل البشري في مساره الصحيح ، ونحن نحتاج إلى منهج القرآن الكريم لضبط مكانة العقل بين الإفراط والتفريط ويمكننا اقتباس عدة مقتطفات تربوية من المنهج القرآني وهي:
منها : التربية القرآنية للعقل بالتحرير
        ربى القرآن الكريم العقل الإنساني بتحريره من جميع المعوقات التي تحول بينه وبين القيام بعمله التفكري والتدبري ولاقتناعي، وهو تحرر شامل من كل القيود التي أوجدها الإنسان بنفسه.
فقامت بطمس الفطرة وأحدثت انتكاس جرف العقول إلى سلوك الطريق البعيد عن الخالق العظيم ومن هذه القيود ،الخرافة والتبعية ، والجمود.
التحرر من الخرافة : سعى القرآن الكريم من الوهلة الأولى عند بداية نزوله بمكة ، لتحرير العقول من جميع أنواع الخرافات والمعتقدات التي لا تتناسب مع التكريم الذي خص به الإنسان ، وقدم الإجابات الواضحة اليه عن الكون ومفرداته وفلسفته، وحقيقة خلقه، وكيف تتم إدارته وحركة القوة فيه.
·  حقيقة خلق الإنسان ومآله فيما بعد الموت.
·  آلية صناعة الأرزاق وكيفية توزيعها.
·  فلسفة خلق الإنسان ورسالته في الأرض.
·  تصحيح الخرافات والتشوهات والتحريف الذي تعرضت له الكتب السابق[10].
التحرر من التبعية : حث القرآن على أتباع التقليد بجميع أنواعه مع مقياس كل مسألة بمعيار العقل، بما يوافق معتقداتك لا باعتبار ما اعتقده الآخرون.
ولا بد  للإنسان المفرد من الاستعانة بالعقل من خلال الدليل والفكر في تحديد موقفه من القضايا المختلفة لا ما قاله أو فعله أو اعتقده غيره من الناس.
قال تعالى: ]وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ[[11].
وإذا قيل لهؤلاء الكفرة من المشركين اتبعوا ما أنزل الله على رسوله واتركوا ما أنتم عليه من الضلال والجهل قالوا في جواب ذلك بل نتبع ما ألفينا أي ما وجدنا عليه آباءنا أي من عبادة الأصنام والأنداد .
قال الله تعالى منكرا عليهم ] آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ [ أي الذين يقتدون بهم ويقتفون أثرهم ] لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ[ أي ليس لهم فهم ولا هداية.
التحرر من الجمود : الجمود مرض مميت لجميع أنواع القلوب ومدمر للعقول، وعلاجه يكمن في المعرفة ،والتعلم.
ويؤكد القرآن الكريم على أهمية إعمال العقل  في التأمل والبحث والتفكر للحصول على المعرفة والحقائق ،وهذا التأكيد جعل المسلمين يتفوقون في كثير من المجالات العلمية ويبرعون في غير فن من الفنون المعرفية.
بل هم من وضع الأساس لغالب العلوم التي يتفاخر بها الغربيون اليوم ، ولو أردنا مثال على منهج الإسلام في ترك الجمود وإعمال العقل والمقارنة بين الدلالات للوصول إلى نتائج مثمرة لكان ميدان الفقه الإسلامي أفضل مثال.
التحرر من اتباع الهوى: يدعو القرآن إلى التحرر من عبادة غير الله تعالى فكل الخلق في ميزان العبودية سواء فإذا تمكنت عبوديته لله من قلبه، وتحرر من عبودية غير الله.
كان أهلاً لأن يأمنه الناس على كل شيء، لأنه لا يستجيب لرغبة، ولا يخضع لرهبة، ولا يقوده إغراء ولا شهوة، ولا يتبع هوى، وإنما يستجيب لأمر الله، وأمر الله لا يوجد فيه إلا عمل الخير الذي فيه غاية الأمن لكل البشر[12].
منها :  تربية القرآن تحفظ وتحمي العقل
عقل الإنسان جزء من بدنه ،والقرآن الكريم قد حرم على الإنسان إتلاف نفسه لأنها مملوكة لله لا للإنسان.
ومن أساسيات الإسلام حفظ الضرورات الخمس وهي الدين ،والنفس ،والعرض ،والمال ،والعقل.
وقد بنى القرآن الكريم تربية العقل على ضرورة ترك كل ما يمكن ان يتلفه أو يضره فحرم الخمر وجميع المذهبات للعقل قال تعالى :] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[[13].
منها : التربية العقلية بالدلالات وبالبرهان والحجة
القرآن الكريم يبني تربيته للعقل البشري على الاحترام لا لإجبار والإكراه ،وهو يدعوا إلى الحوار والإقناع، ويورد الأدلة بمختلف أنواعها ، ويناقش الآراء المختلفة.
ليتوصل الإنسان بنفسه إلى الحقيقة وإلا فإنه يعلنها صراحة ،قال تعالى ]لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[[14].
فإذا كان الدين لا إكراه فيه ،فلا إكراه فيما سواه وهي دعوة صريحة في غالب آيات القرآن الكريم تدعوا إلى التفكر والتأمل في كل ما يعرض،وعدم الاغترار بالظواهر ،فالحقيقة أهم من المظهر وعليها المعول، والحساب.
2 -  التربية الإيمانية
الحاجة إلى الإيمان فطرة للإنسان : لو ترك الإنسان لفطرته لعاد من غير استثناء إلى العبودية المطلقة لله تعالى وحده ، فالإنسان  بفطرته يحتاج  إلى الالتجاء والاعتصام بعظيمز
 كما يحتاج في أزمنة الاضطرابات والمخاوف وعدم الاطمئنان إلى الملجأ، ويحتاج في غربته وضياعه وتيهانه أن يشعر بأن هناك من يحبه ويرحمه.
فقد روي عن رسول الله J قال: ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه، و ينصرانه، ويُمجسانه، كم تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحس فيها من جدعاء.
بقوله تعالى ]فأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ. [[15].
وهذه الحاجة تُولد بالإتباع الصحيح والصريح للرسل D والإيمان بالله تبارك وتعالى.
فالإيمان نور يتغلغل إلى داخل المسلم، ويتسلل إلى خلاياه حتى  يكون جزء من تكوينه يستمد منه القوة فلا يخاف إلا الله ولا تأخذه في الله لومة لائم وصدق الشاعر[16]:
ولست أبالى حين أقتل مسلما * على أي الجنبين يكون في الله مصرعي
وعن طريق الإيمان بالله تعالى تتحقق الطمأنينة في النفوس ،فلا اطمئنان بعيد عن الإيمان.
والإيمان بالله شرط للهداية التي تفتح للنفس البشرية آفاقًا واسعة للخير، والسعادة والسعي في مصالح الناس وحاجاتهم[17].
والإيمان سد منيع ،يحمي صاحبه من الانزلاق وراء الشهوات والغرق في مستنقع الرذيلة.
كما أن الإيمان يحقق للمؤمن تصورات واضحة عن الحياة، وعن الوجود، وعن نفسه، فالحياة محنة وابتلاء واختبارات[18].
قال تعالى:  ]إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[[19].
نحن نحتاج إلى الإيمان حتى نجابه أمراض العصر من القلق، والخوف من الفشل، والشعور بالضياع، وعدم الانتماء وغيرها.
لأن الإيمان هو الذي يعيد التوازن للنفوس ، والإيمان هو المعيار الثابت في وجه جميع المتغيرات قال تعالى:  ]الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ[[20].
ومفهوم التربية الإيمانية هو عملية متدرجة ومقصودة، وغاية لكل فرد من المجتمع لتوجيه الإنسان نحو خالقه من خلال مجموعة من المباديء، والقيم المستمدة من الكتاب والسنة.
والتي تعمل على النمو السليم المتوازن بالروح والعقل والنفس والجسم وتحدث التكيف الاجتماعي[21].
( أ ) - منهاج القرآن في التربية الإيمانية
من أهم سمات التربية القرآنية التدرج في اكتساب القيمة ،حتى تتمكن في النفس المؤمنة وتصبح جزءا أساسيا من مكوناتها الثقافي، والسلوكي[22].
ويمكننا الاستفادة من تدرج القرآن الكريم في أسلوبه التربوي لأن التدرج  في ترسيخ الإيمان ينير القلوب، ويوضح أمامها المطلوب ،كما أنه يسهل الاعتناق والعمل ،أو الاعتناق والترك.
ومن تدرج القرآن في التربية الإيمانية فقد أثمرت تربية الرعيل الأول بالإيمان في وقت نزول القرآن الكريم بمراحل يمكن استنباطها بمدارسة تدرجات القرآن الكريم في الكثير من الأمور التشريعية في المرحلتين المكية، والمدنية كفرضية الصلاة، والصيام، وتحريم الخمر، والأمر بالحجاب وغيرها.
فالتدرج في التشريع أسلوب حكيم أستخدمه القرآن الكريم ؛ ليتوافق مع فطرة الإنسان المجبول على التدرج في القبول والاقتناع.
وتربية القرآن للنفوس بالإيمان اندرجت تحت هذا الأسلوب الإلهي المتكامل مع احتياجات الإنسان ،فراعت في فرضيتها الفرد والمجتمع ،وما كان مقررًا وسائدًا، مع ماهو جديد وواجب. ويمكن تحديد المراحل التي مرت بها التربية الإيمانية بالمراحل التالية:
مرحلة : تفكير المسلم والتربية الإيمانية
باعتبار أن الإسلام  دين دعى لعقيدة لم تكن معروفة فيما بين العرب بالجزيرة، أو كانت معروفة ولكن متروكة كما كانت عند أهل الكتاب.
فلقد ركز القرآن الكريم في بداية العلاج على العلاج من الداخل إي علاج القلب من الشرك وذلك بالدعوة إلى وحدانية الله تبارك وتعالى ، ومعرفة ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته.
ومن عقائد الغيبة الإيمان بالرسل D والكتب والملائكة واليوم الآخر وغيرها من العقائد التي تعيد صياغة القلب من الداخل فيثبت ولا يمكن أن تؤثر فيه المتغيرات من الأحداث.
ودلل القرآن الكريم على أهمية هذه البداية ببيان من أنها كانت بوابة لكل دعوات الرسل D.
قال تعالى في قصة نوحA :
 ]لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ[[23].
وقصة إبراهيم A كما في قوله تعالى:
  ]وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ[ [24].
وبتكامل القران ركز على هذا العلاج الداخلي طوال فترة الدعوة في مكة، واستطاع أن يغسل القلوب المؤمنة من كل معتقد فاسد، ويرسخ كليات العقيدة الإسلامية فيها.
وهذا العلاج قد استغرق كل فترة الدعوة في مكة وهي تقريباَ ثلاثة عشر عام بين الجهر والإسرار ولم يتجاوز القران المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليها.
من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة إلا بعد أن علم الله  أنها استوفت ما استحقتها من بيان وإنها استقرت استقرار مكتوبا وثباتا في قلوب العصبة المختارة من بني الإنسان[25].
مرحلة : أمر العبادات والتربية الإيمانية
بعد البناء الداخلي أي بمعنى بناء قلوب الإفراد من الداخل انتقل إلى وضع السياج الثاني الذي يعتبر كاسلوقود الذي يشحن طاقة القلب.
فبعد أن كانت الأمة هي الرسولJ ثم خديجةI ثم علي A ازدادوا ليصبحوا امة كل فرد فيها يملك الإيمان السليم في قلبه، ولكن هذا الإيمان يحتاج إلى طاقة ليثبت، ويزهو، ثم يثمر فيدعو غيره ليتشارك معه في الجزاء.
وفي سبيل ذالك قرر القران العلاج الثاني ؛ وهو إقرار عدد من التشريعات التي تعتبر كالمحرك الذي يزيد الإيمان ويقويه:
ففرضت الصلاة والزكاة والحج قال تعالى:
 ]وما وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ[[26].
والصيام قال تعالى :
  ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[[27].
والحج والعمرة قال تعالى:  ]وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ[ [28]. وغيرها من الفرائض والنوافل.
مرحلة : الاخلاق والتربية الإيمانية
سلك القرآن في التربية الإيمانية مسلك التصحيح بالأخلاق فالإسلام كما أنه دين عقيدة وعبادة ،فهو دين أخلاق ومُثل ، وتمثل الأخلاق في منهج التربية الإسلامية ركيزة أساسية  في تربية النفس[29].
والأخلاق هي مجموعة تصرفات السلوك الحميدة التي تنبعث ذاتا من الفرد المسلم بقصد نيل الأجر من الله تعالى دون سواه[30].
ولبيان أهمية التربية بالأخلاق في تحقيق التربية الإيمانية نجد أن القرآن الكريم ربطها بالتوحيد الذي هو أساس البناء وأن إسقاطها يؤدي إلى هلاك الأمم.
قال تعالى في قصة نبي الله لوط A  ] وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ[[31].
فنجد أن لوطًا A جعل من أساس دعوته الدعوة إلى الأخلاق، وجعلها من أركان الاستجابة الإيمانية السليمة، وعندما خالفها قومه جاء أمر الله بان أهلكهم جميعا إلا من أمن وأصلح قال تعالى ]فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ[[32].
مرحلة : بناء الدولة والتربية الإيمانية
فبعد الهجرة ،وببناء الدولة استقرت النفوس، وزادت الثقة في النصر، وتحقق الفوز، واتجه القرآن الكريم إلى تريبة الأمة بعد أن ربي الأفراد ، وقد طبق القرآن الكريم هذه التربية بأسلوب لا يصدر إلا من العليم الخبير الذي يدرك مكمن الداء وحقيقة الدواء.
فوضع القرآن الكريم أساسيات للدولة كفيلة لتربية المجتمع تربية إيمانيه خالصة ، واستخدم في سبيل ذالك وسائل منوعه مثل:
(تربية المجتمع بالتكافل الاجتماعي - تربية اقتصادية تؤمن الملكية الفردية وتحمي الموارد الاقتصادية - حماية روح الأمة بإيجاب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر -إشاعة العدل والمساواة بين الأفراد).
فقد قال تعالى:  ]وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[ [33].
والإسلام ينظر إلى المجتمع، أو الحياة على أنها متكاملة، فلا ينفصل الاقتصاد عن الأخلاق، ولا ينفصل العمل عن الإيمان، ولا تنفصل الأمة عن الفرد ،فكلها تنبع من مشكاة واحدة ،وكلها تصب في نفس الكأس، فإذا تمت تربية الفرد، فقد تم بناء المجتمع.
مرحلة : الجهاد والتربية الإيمانية
هناك جهاد الاكبر وهو جهاد النفس فقد اتجه القرآن في نهاية سلم التربية الإيمانية إلى التربية بالجهاد، وهو وسيلة جامعه لكل أنواع التربية السابقة، ويضاف إليها أنها وسيلة ينقل خلالها الأفراد الذين ربوا بالتربية الإيمانية.
ثم اشتد عودهم ما تعلموه  إلى غيرهم ،وليس المقصود بالجهاد هو القهر على اعتناق الإسلام، لأنه لا إكراه في الدين ، ولكن المقصود هو إطلاق الأفراد ليصبحوا أحرارًا.
في اختيار العقيدة التي يريدونها بمحض اختيارهم بعد رفع الضغط السياسي عنهم ،وبعد البيان المنير لأرواحهم وعقولهم[34].
( ب ) - الفوائد الإيمانية للتربية
تظهر فوائد التربية الإيمانية على الفرد والمجتمع من جوانب متعددة فمن الناحية السلوكية سلوك الفرد بينه وبين نفسه.
فالإيمان يربي الفرد من داخله ويمنحه الاستقرار النفسي، والانضباط السلوكي، فيعصمه من الزلات والأهواء وينجيه من المهلكات، فالإيمان يرتقي سلوكيا بالمؤمن وبه يستحق ما خص به من تكريم.
واما سلوك الفرد بينه وبين غيره بالتربية القرآنية ينضبط المجتمع بأكمله، فكل فرد من المجتمع يراعي حق غيره قبل حق نفسه، فيبادر إلى المساعدة.
تجده يساعد في البناء ،يدعو إلى الخير ،يدافع عن الدين واصفاً السلوك في المجتمع المسلم قوله تعالى :
]الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[[35].
وبانضباط سلوك الفرد ينضبط سلوك المجتمع كله وبالتالي الأمة كُلها من الناحية الاقتصادية والتربية الإيمانية تهتم بالبناء الاقتصادي للفرد.
فالإيمان يؤثر في الرؤية الامتلاكية للأشياء، والمؤمن يضبط نفسه دائما بالسؤال ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟
لذلك هو يرتفع بالإيمان عن السرقة، والنهب، وعن أكل مال الغير إلا بالحق، وعن الربا ،والرشوة ،كما أنه يسارع على تطهير ماله بالزكاة وزيادتها بالصدقة.
قال تعالى:  ]وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ[[36].
واما البناء الاقتصادي للمجتمع والتربية الإيمانية خير ضابط لحفظ الاقتصاد في المجتمع لأن مجتمع الإيمان يُرَبي على التكافل الاجتماعي وعلى الأُسس السليمة لحفظ الاقتصاد العام ، فالتاجر المسلم يأبى الاحتكار والغش ،كما يُربى على حفظ الثروات العامة.
ومن الناحية السياسية التربية القرآنية وضعت أسس الدولة الإسلامية وساد المسلمون الناس فملكوا الأرض ،ومن الجيش الإسلامي في عصر الرسول J نستمد نُظم الحرب والسلم.
واما من الناحية العلمية التربية القرآنية الإيمانية تفتح آفاق الفكر، وتشحذ الذهن، وتنمي القدرة على الربط والتحليل ،والوصول إلى العلم الذي لم يعلمه الإنسان.
 إلا من خلال تعليم الله تعالى له ،وهو العلم الذي يقود إلى المعرفة الحق لا إلى الجحود، والكفر قالت سبحانه وتعالى:
 ] إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ[[37]. ومن ذلك يعلم إن التربية الإيمانية تهيئ الفرد ليكون هو الإنسان المثالي.
3 - التربية النفسية 
لن تكتمل النظرة الباحثة لمميزات التربية القرآنية إلا من خلال التربية الشاملة ومنها التربية النفسية في القرآن الكريم، لأن التوقف عند التربية العقلية، والتربية الإيمانية يعتبر قصور وإنقاص.
 من قدرة التربية القرآنية على إنشاء الإنسان الصالح[38] فالمنهاج الرباني في التربية القرآنية يجعلها شاملة لكل محاور التكوين البشري من عقل وقلب وروح ومشاعر وبدن وغيرها.
واهتمام القرآن الكريم بالنفس من خلال التفصيل بالنواحي النفسية للنفس البشرية، واهتمامه بالتربية النفسية ،أو تربية الضمير لكي يحث المسلم على إيقاظ حس الحسبة الداخلية للإنسان من خلال ضميره المتيقظ ، وتحديد موقفه من  الحلال، والحرام، والخير، والشر.
والتربية القرآنية  حريصة على  أن يكون الإنسان رقيب على نفسه فلا يسمح لنفسه بممارسة أشياء يعلم داخل نفسه خطئها، أو اختلافها مع القيم الشرعية.
وأهمية التربية النفسية ناشئة من أهمية تربية النفس بالضبط لأن النفس منبع كل خير شر قال تعالى:
  ]وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ[[39].
ووضعت التربية القرآنية أسس دقيقة لمعالجة النفوس ؛ فقد شخصت أولا العلل التي يمكن أن تصيب النفوس فتحيد بها عن طريق الفطرة القويمة التي فطرت عليها[40].
وقد قال تعالى] ثُمّ َقست قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ[[41].
وقال تعالى : ]وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا[[42].
وبين القرآن الكريم أن هناك ميزان دقيق خلقه الله تعالى لموازنة النفوس وإعادتها إلى جادة الصواب ،قال تعالى ]وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ[[43].
وقام القرآن الكريم ببيان أنواع النفوس لتكون كل نفس على بينة في طريقه الذي يختاره للسير عليه قال تعالى : ]ثمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ[[44].
وإجمالًا إن النفس لم يعرف كنها بالضبط ، بل لم يعرف موقعها من الإنسان ، وكل ما يعرف عنها هو ما يلاحظ  عن المرء من سكنات، وحركات، ونشاط حيوي سواء كان ذلك خاصًا باحتكاكه بغيره من الكائنات أم خاصا به وحده.
فالنفس السليمة يرى صاحبها وقد سار في الحياة في طريق سوي طبيعي ليس به شذوذ ، والنفس السقيمة يرى صاحبها قد سار سيرا شاذا معوجا من شأنه أن يظهره في مظهر غير مألوف[45].
ومن فوائد التربية النفسية في القرآن للمؤمن فوائد قصوى لا يستطع أي منهج تربوي آخر توفيرها،وإن اردنا إحصائها لن نستوفيها في أسطر.
فمنها الثقة والطمأنينة : التربية القرآنية لنفسية المسلم تجعله يتحلى بالثقة بالله جل وعلى أولًا، وهذه الثقة تنعكس على كل أمور الحياة ،فهو راض بكل ما يأتيه الله تعالى إياه.
وواثق منه خيرا لأنه من عند الله ،مرتبط بحركاته وسكناته وخطراته مع الله جل وعلا حتى يكون الله تعالى كما جاء في ان يكون له سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي ببطش بها، ورجله التي يمشي بها.
وهذا الرضا والاستسلام لله تعالى مقرون بالمحبة لله تعالى ولرسوله J ولاهل بيته  Dوالثقة تورث الطمأنينة التي هي استقرار القلب ومنعه من الاضطراب.
واما السعادة : هي المطمع الذي يجري خلفه كل طالب ، والمسعى التي يسعى إليها كل ساعي سواء أصاب معناه الحقيقي أم لم يصيب.
فقد قال تعالى : ]وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى[[46].
والتحرر من عبودية غير الله في تربيته للنفوس البشرية إلى عتقها من العبوديات المتسلطة على الرقاب البشرية وتحريرها من عبودية غير الله تعالى ، ولذلك نجد أن التربية الإيمانية أن تحققت كاملة وكان المعبود الأوحد هو الله جل وعلا ستتحرر النفوس من كثير من أمراضها المستعصية ،وتحلق في محيط عبادة الله وحده.
والاتزان والنظر للحياة بالنظرة المعتدلة فقد قال تعالى:  ]لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ[[47].
آيات كثيرة من هذا القبيل تشير إلى أن  الاعتدال والتوازن من سنن الله تعالى في الكون، وميز الله هذه الأمة المحمدية بقوله : ]وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[[48].
فالنظرة المعتدلة والموازنة بين الأمور من متطلبات النفس السوية والتي تعمل التربية القرآنية على تحققها قال تعالى:
 ]وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ[[49].
والنظرة المعتدلة تقي الإنسان من الوقوع في العجلة ،كما أنها توطن النفس على النظرة المتأملة للأمور وهو ما يوفر الحكم الصحيح ،لأن أصل الضلال اتباع الهوى والظن قال تعالى: ]إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى[[50].
واما السعي إلى الكمال في شؤون الدنيا والآخرة تجد المؤمن المطمئن النفس لا يرضى بالدونية، أو القليل من الأشياء بل هو يعلم أن خلقه في هذه الدنيا ليس عبثًا بل هو مخلوق لغاية وهدف، ومطلوب منه اعمار حياته.
فهو محاسب على وقته وصحته وعمره وعمله ، ومن كان هذا فكره يسعى إلى الكمال البشري الممكن له فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.
قال الغزالي: وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملا وإنما يكمل ويقوى بالنشوء والتربية بالغذاء فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم[51].
والسلامة من كثير من الأمراض النفسية فأغلبها منشؤها قلة الإدراك التي تؤرق عقول الحائرين في فهم معاني الحياة، والموت والمصير وسبب الخلق والوجود ، وعدم الإدراك هذا يؤدي إلى وجود فجوات نفسية، وثقوب في اتضاح الرؤية ،ومن ثَم تنشأ الأمراض النفسية من قلق، وخوف، وعدم استقرار.
وكذلك الأمراض الاجتماعية من حسد أو تباغض وتنافر، لكن المؤمن كامل الإيمان المعتمد والمتوكل على الله ،يعلم يقينا أنه لم يخلق عبثا، وأن الحياة لا تنتهي عند الموت بل هناك دار تجني فيها الثمار وفيها يكون الخلود الحقيقي.
يعلم أن ما أصابه من خير أو شر هو مكتوب عليه من عند الله ، يعلم أن كل كلمة أو قول ،أو فعل هو عمل يؤجر عليه ، وهذه المعرفة تحقق الاستقرار ثم السكينة ثم الطمأنينة.
ومنشأ هذه المعرفة هو الإيمان بالله الحق الذي يسير بالمؤمن في طريق الله للوصول إلى حب الله والفوز بالقرب منه تعالى ،فالمؤمن يسير في طريق الله آمناً مطمئناً، لأن إيمانه الصادق يمده دائماً بالأمل والرجاء في عون الله ورعايته وحمايته.
ومن هنا يعلم أن التربية القرآنية للنفس البشرية تربية خاصة ،تضع الخطوط العريضة على الأمراض التي تصيب النفوس وتعطب الأرواح ، وتميت القلوب.
ثم ترسم الطريق الواضح نحو العلاج الرباني لجميع تلك الأمراض ، وهي لاتتوقف عند تشخيص الداء ووصف الدواء بل تتعدد الوصفات لتتناسب مع جميع أنواع النفوس البشرية وتعالج كل العلل المرضية التي يمكن أن تصيب الإنسان.


الهوامش


[1] - سورة الزمر 9 / 39
[2] - سورة فاطر 35 /28
[3] - سورة الحج 46
[4] - صحيح مسلم كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله4/1968.
[5] - د.إبراهيم الديب، البرنامج العلمي لبناء المسلم القرآني المعاصر - المجموعة العربية للبحوث والدراسات والتطوير الدوحة – القاهرة ص109
[6] - صحيح البخاري كتاب الإيمان باب فضل من استبرأ لدينه وأمانته 1/28،25
[7] - سورة الحج الاية 46
[8] - صحيح البخاري ص109
[9] - د.إبراهيم الديب، البرنامج العلمي لبناء المسلم القرآني المعاصر ص124
[10] - المصدر نفسه، ص124،
[11] - سورة البقرة 170
[12] - أثر التربية القرآنية في آمن المجتمع، عبد الله قادري الأهدل ص85
[13] - سورة المائدة 90
[14] - سورة البقرة 256
[15] - سورة الروم 30 / 30
[16] - قاله خبيب ابن عدي لما أراد المشركون قتله بعد أن أسروه وذهبوا به إلى مكة ،وهو بدري ،أنصاري من قبيلة الأوس، لازم النبيo  منذ أن وصل إلى المدينة.
[17]- د.محمد شحات، د.مصطفى متولي، د.نور الدين عبد الجواد، د.محروس إبراهيم ، د.فتحية محمد، أصول التربية الإسلامية، الطبعة الثالثة دار الخريجي للنشر والتوزيع ص224
[18]- أهمية الإيمان في تربة المجتمع ً110
[19] - سورة الكهف 18 / 7
[20] - سورة الرعد 28 / 13
[21] - خالد عبد الكريم فياض، الأسلوب التربوي للدعوة إلى الله في الوقت الحاضر الطبعة الأولى دار المجتمع للنشر والتوزيع1421هـ_1991م ص23
[22] - الدكتور إبراهيم الديب ،البرنامج العملي لبناء المسلم القرآني المعاصر ،ص27
[23] - سورة الاعراف 59
[24] - سورة الشعراء 79 - 69
[25] - محمد أحمد العدوي دعوة الرسل إلى عبادة الله طبعة دار المعرفة بيروت سنة1414هـ،1993م ص2
[26] - سورة البينة 98
[27] - سورة القرة 183
[28] - سورة البقرة 196
[29] - الدكتور صالح إيشان عبد الرحيم ،منهج التربية الإسلامية في تربية النفس مجلة الجامعة الإسلامية العدد 134ص459
[30] - إعداد اللجنة الثقافية في مؤسسة الكلمة رسائل فتيان الدعوة 1414هـ،1994م ص63
[31] - سورة العنكبوت 29/28
[32] - سورة هود 82
[33] - سورة التوبة 71
[34] سيد قطب - معالم في الطريق - دار القرآن الكريم للاتحاد الاسلامي العالمي 1398هـ 1978م ص64
[35] - سورة الحشر 59
[36] - سورة البقرة 188
[37] - سورة فطر 35 / 28
[38] - اقتبسنا مصطلح (الإنسان الصالح )  من محمد قطب والذي استخدمه بكثرة في كتابه مناهج التربية الإسلامية.
[39] - سورة الحجرات الاية 49
[40] - حادثة قصة جميله جدآ... جاء رجل بريطاني إلى رجل دين وسأله: لماذا لا يجوز في الإسلام للمرأة أن تصافح الرجل الاجنبي عنها؟
قال رجل الدين: هل يمكنك أن تصافح الملكة إليزابيث؟
قال الرجل البريطاني: بالطبع لا، هناك أشخاص فقط الذين يمكن أن يصافحو الملكة اليزابيث.
فأجاب رجل الدين : المرأة لدينا هي الملكه والملكات لا تصافح الرجال الغرباء.
ثم سأل الرجل البريطاني رجل الدين: لماذا الفتيات تستر الجسم والشعر؟
تبسم رجل الدين واخذ اثنين من الحلوى، وفتح واحدة وأبقى الاخرى مغلقه. ألقى الاثنين على الأرض المتربة، وقال رجل الدين للبريطاني: إذا طلبت منك أن تأخذ واحده من الحلوي أي واحده سوف تختار؟
رد البريطاني : سأخذ االمغلقة.
قال : هذه هي االطريقة االتي نعامل بها االمرأة لدينا.
[41] - سورة البقرة 74
[42] - سورة الشمس 91/7و8
[43] - سورة القيامة 75 / 2
[44] - سورة فاطر 35 / 32
[45] - عارف جمعة ، مذكرة في علم النفس ص32:31
[46] - سورة طه 124
[47] - سورة يس 36 / 40
[48] - سورة البقرة 143
[49] - سورة القصص 77
[50] - سورة النجم 53 / 23
[51] - الغزالي – إحياء علوم الدين ص 2